الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها
إعداد
الدكتور محمد بشاري
رئيس معهد ابن سينا للعلوم الإنسانية
أمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي
I / تعريف المصطلحات
أ) تعريف مصطلح حرية الاعتقاد
1 - تعريف مصطلح الحرية
2- تعريف مصطلح الاعتقاد
ب) تعريف مصطلح حقوق الإنسان
II / الحرية الدينية : محطات تاريخية
III / الحريات الدينية في ظل المواثيق الدولية
أ) حرية الرأي والعقيدة في النظم الوضعية
ب) المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان
IV / مكانة الحرية الدينية في الإسلام
أ) الإسلام أول من أرسى الحرية الدينية
ب) حرص الإسلام على تحرير الإنسان
1- تحرير الإنسان من قيود العبودية لغير الله
2- تحرير الإنسان من قيود الشهوات الحيوانية
3- تحرير المجتمع من النظام الطبقي والاستلاب
4- تحرير الفرد والمجتمع من نزعة الإفراط والتفريط إلى حرية الوسطية والتوازن
5- تحرير الفرد من عبودية التقليد الأعمى
V / ضوابط الحرية الدينية في الإسلام
أ) الضابط الأول : تشريع عقوبة الردة العنيفة والهادمة للقيم
أنواع الردة في الإسلام :
أولاً : الردة العقدية المسالمة
ثانياً : الردة الهادمة لقيم المجتمع وثوابته
ثالثاً : الردة العنيفة (المسلحة)
ب) الضابط الثاني تشريع مبدأ التبرؤ من الأعمال الفاسدة ومن الكفار المعتدين
الرأي الأول - الرأي الثاني
تصحيح بعض المفاهيم :
1- البراءة تكون من الظالمين, كفاراً كانوا أو مسلمين
الرسول, صلى الله عليه وسلم, كان يحب أناس من غير المؤمنين
2- مفاهيم الموالاة والتبرؤ في الإسلام تتصل بالأعمال والصفات وليس بلأشخاص
3- المفهوم الحقيقي للبراءة من الظالمين والمعتدين :
4- البراءة معناها تجنب طاعتهم ومداهنتهم في أمر الدين
VII / طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية التي تكفل الحرية الدينية
أولاً : تصحيح بعض المفاهيم :
المفهوم الأول : الدولة الإسلامية : هي دولة دستورية
المفهوم الثاني : الدولة المدنية : دولةٌ تقوم على أساس البيعة والانتخاب والشورى
المفهوم الثالث : الدولة الثيوقراطية : دولة ذات تعددية دينية وسياسية وحزبية وعرقية
حزب المهاجرين - حزب الأنصار - حزب الطريق الثالث
طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية : هي دولة مدنية وليست دولة عسكرية
VIII / حقوق غير المسلمين في الدولة ذات الأغلبية والمرجعية الإسلامية
وثيقة المدينة هي أول وثيقة في التاريخ تعترف بالتعددية الدينية
الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها
مقدمة
إن قضية حرية الرأي والتعبير وحرية العقيدة من أهم وأعقد القضايا التي تشغل كل المجتمعات تنظيراً وتطبيقاً، فإذا كانت الحرية نزعة فطرية في البشر, فإن الاتفاق على أشكالها يعد أشبه بالمستحيلات، حيث يصعب إيجاد صيغة عالمية موحدة لمفهوم الحرية, وذلك بسبب الاختلاف بين الحضارات والثقافات، فما يعد من قبيل الحريات في مجتمع ما, قد لا يعد بالضرورة كذلك في مجتمع آخر, ورغم تباين المجتمعات في نظرتها لمفهوم حرية الرأي, إلا أن كل مجتمع يقر بضرورة وجود ضوابط أو قيود لممارسة الحريات بأنواعها.
أولاً : تعريف المصطلحات :
أ) تعريف مصطلح حرية الاعتقاد :
لقد عرفت الحرية الدينية بما يلي : "الشعور بالحرية في اعتناق المعتقدات والأديان دون جبر أو إكراه".
1- تعريف مصطلح الحرية : إن مفهوم الحرية مفهوم نسبي يختلف في العموميات ويتحد في خصوص المعنى. ولذلك يختلف تعريف الحرية من حضارة لأخرى،ومن دين لآخر، ومن معتقد وفكر لمعتقد وفكر آخر، وعليه لم يحصل اتفاق على حدود معناها ولم يوضع لها تعريف جامع مانع متفق عليه. فالموسوعة العربية تعرفها : (حالة من يستطيع أن يفعل ما يشاء بمحض إرادته لاكما يشاءه الغير) .ولتقريب شمولية هذا التعريف إلى الذهن قالوا
الحرية هي حالة الكائن أو الشيء الذي لا يخضع لأي ضغط خارجي،ويعمل حسب إرادته،أو قوانين طبيعته، فالشيء الذي يسقط إلى الأرض حرٌ لأنه يخضع لقوانين طبيعته
2- تعريف مصطلح الاعتقاد : أما العقيدة فهي في اللغة من العقد وهو الربط، والإبرام، والإحكام،والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والتراص، والإثبات ومنه اليقين والجزم.
والعقد : نقيض الحل, ويقال : عقد،يعقد،عقداً ومنه عقدة النكاح واليمين. والعقيدة في الدين:ما يقصد به الاعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الله وبعث الرسل وخلاصته: ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به فهو عقيد ة سواء أكان حقاً أم باطلاً
ب) تعريف مصطلح حقوق الإنسان :
كان في مرحلة سابقة على هذا القرن تعريف مصطلح "حقوق الإنسان" يعني تلك الحقوق التي تضمنها الشرعة الدولية, وتتألف من : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية - بروتوكوليه الاختياريين.
ولكن مع مرور السنوات, أخذت الصكوك الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان تعلن بصراحة أكثر الحقوق المبسوطة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان, إلى أن أصبح مصطلح "حقوق الإنسان" ينطوي على قدر أكبر من التفاصيل ومن التخصيص. ولذلك نجد اليوم قانوناً دولياً لحقوق الإنسان يمد حماية أكبر للضعفاء من الأفراد والجماعات, فيشمل الأطفال والمجموعات الأصلية من السكان واللاجئين والمشردين والمرأة. وبالإضافة إلى ذلك وسّعت بعض صكوك حقوق الإنسان هذا التعريف بصياغة حقوق جديدة.
انظر على سبيل المثال الإعلان الخاص بحقوق المعوقين، قرار 3447 (د 30 )، الوثائق الرسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة، الدورة الثلاثين، الملحق رقم 34، الوثيقة A/10034 1975. وإعلان الحق في التنمية، قرار الجمعية العامة 41/128، المرفق، 41، الوثائق الرسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة، الملحق رقم 53، صفحة 186، الوثيقة A/41/53 1986.
ثانياً : الحرية الدينية (محطات تاريخية) :
شهد القرن العشرون نمواً باهراً للديمقراطية في العالم, فوفقاً لمؤسسة "فريدوم هاوس" (بيت الحرية)، وهي منظمة غير حكومية تتبع آثار انتشار الديمقراطية وتروج لها، زاد عدد الديمقراطيات في العالم إلى ثلاثة أضعاف (إلى 120) خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.
• 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, المادة 18.
• 1966 العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, المادة 18.
1981 إعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز على أساس الدين أو المعتقد.
• 1993 التعليق العام رقم 22 للجنة المعنية بحقوق الإنسان, المادة 18 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
1- الحريات الدينية في ظل المواثيق الدولية :
أ) حرية الرأي والمعتقد في النظم الوضعية :
هناك عدة حريات توصلت إليها النظم الوضعية, منها : حرية الاعتقاد، وحرية تقرير المصير، وحرية الاجتماع، وحرية الإعلام, وحرية التعبير, وحرية التعليم, وحرية العقيدة, وحرية الصحافة
هذا وقد أولت النظم الوضعية حرية الرأي أهمية تتناسب ومكانتها وأثرها, إذ جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وكذلك في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, ما يشير صراحة إلى حرية الرأي, وعلى وجه الخصوص ما جاء في المادة (19) الفقرة (1) وفيه
1- لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. والمقصود بالآراء هنا الآراء الدينية، والسياسية، والمدنية، وأية آراء أخرى على اختلاف أنواعها.
2- لكل إنسان حق في حرية التعبير, ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين, دون اعتبار لأية حدود, سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب أو بأي وسيلة أخرى يختارها
ب) المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان :
توجد في أكثر من 25 دولة, من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة, مؤسسات وطنية لحماية حقوق الإنسان ومتابعة تنفيذ الالتزامات ذات الصلة بها.
ج) المؤسسات واللجان الوطنية لحقوق الإنسان القائمة في 2002م :
لجنة حقوق الإنسان والفرص المتساوية الأسترالية - لجنة حقوق الإنسان الكندية - المركز الدانمركي لحقوق الإنسان - المدافع عن شعب الأكوادور - لجنة حقوق الإنسان بفيجي - المدافع العام عن جورجيا - أمبودزمان جويانا - لجنة هونج كونج للفرص المتكافئة - المدافع العام الجامايكى - المكتب الآتفى لحقوق الإنسان - لجنة إندونيسيا لحقوق الإنسان - مركز حقوق الإنسان المالديفى - اللجنة المونغولية لحقوق الإنسان - المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بالمغرب - لجنة نيبال لحقوق الإنسان - اللجنة النيوزيلندية لحقوق الإنسان - اللجنة النيجيرية لحقوق الإنسان - لجنة أيرلندا الشمالية لحقوق الإنسان - لجنة رواندا لحقوق الإنسان - لجنة جنوب أفريقيا لحقوق الإنسان - لجنة سري لانكا لحقوق الإنسان - لجنة تايلاند لحقوق الإنسان - اللجنة الأوغندية لحقوق الإنسان - اللجنة الزامبية لحقوق الإنسان
: مكانة الحرية الدينية في الإسلام
1- الإسلام أول من أرسى الحرية الدينية :
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتيح وجود سائر الأديان والاتجاهات في مجتمعه ودولته، ويمنحها الحرية الكاملة في ممارسة الشعائر والطقوس والعبادات، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها, دون أن يفرض على أتباع هذه الديانات شعائره وأحكامه, ودون أن يتدخل في شؤونهم الدينية.
لقد تعهد رسول الله, صلى الله عليه وسلم, لنصارى نجران بضمان حريتهم الدينية ليقيموا عباداتهم وشعائرهم, وجاء ذلك في العهد المنقول إلينا في كتاب أبي الحارث بن علقمة, أسقف نجران, وهذا نصه :"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي... إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبا نهم :
إن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته, ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه. على ذلك جوار الله ورسوله أبداً، ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين".
وقد أشاد "آدم متز" بمستوى الحرية الدينية في ظل دولة الإسلام, فقال : "لم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم، وإن الحكومة في حالات انحباس المطر، كانت تأمر بتنظيم مواكب يسير فيها النصارى, وعلى رأسهم الأسقف, واليهود وعلى رأسهم النافخون بالأبواق.
ويقول "جولد تسيهر" : "سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة, ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتوماً, فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد, أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية, كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية، ولم يكن واجب الإسلام أن ينفذ إلى أعماق أرواحهم, وإنما كان يقصد إلى سيادتهم الخارجية. بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة, ففي الهند مثلاً كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل والمعابد في ظل الحكم الإسلامي.
وجاء في الأخبار النصرانية شهادة تؤيد مدى التسامح الإسلامي، وهي شهادة "عيشويابة" الذي تولى كرسي البطريركية (647 - 657 هـ), إذ كتب يقول : "إن العرب الذين مكنهم الربّ من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قسّيسينا, ويمدّون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا".
2- حرص الإسلام على تحرير الإنسان :
أ) تحرير الإنسان من قيود العبودية لغير الله لكي يفهم معنى العبودية للرب.
ب) تحريره من قيود الشهوات الحيوانية لكي يفهم روعة قدرة الإنسان السوي على التحكم بنزعات الهوى وهوى الشهوات.
ج) تحرير المجتمع من النظام الطبقي والاستلاب{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران, الآية 64).
د) تحرير الفرد والمجتمع من نزعة الإفراط والتفريط إلى حرية الوسطية والتوازن.
ه) تحرير الفرد من عبودية التقليد الأعمى وحث الناس لإتباع العقل والفطرة والمنطق فحول بذلك قيوده التي فرضها على الحريات إلى حريات جديدة هي أسمى أشكال الحريات وأكثرها توافقاً مع لفطرة الإنسان.
3- ضوابط الحرية الدينية في الإسلام :
لقد وضع الإسلام ضوابط لتطبيق مبدأ الحرية الدينية ليحمي الأمن والنظام العام للمجتمع, والآداب العامة, وكذلك الصحة العامة, لذلك نجده يحظر على غير المسلمين المجاهرة بالفواحش, من الزنا, وشرب الخمر, والسكر على الملأ من الناس, وإن كان لا يطبق عليهم – عند اقتراف هذه الانحرافات في غير علانية – الحدود التي يطبقها على المسلمين,
وحماية للنظام العام وأمن المجتمع, يعمل الإسلام على إحباط أي محاولة تهدف إلى تقويض دعائم المجتمع بطريق العنف أو العمل المسلح, ومن أجل ذلك شرع عدة عقوبات لضبط ممارسة حرية التدين, ومنها:
أ) الضابط الأول : تشريع عقوبة الردة :
تعتبر عقوبة الردة في الإسلام من الضوابط لممارسة حرية التدين, فالقرآن الكريم يدعو إلى حرية المعتقد بصورة واضحة لا تحتمل اللبس ولا التأويل : {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة, الآية 256), وكذلك قوله تعالى : {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (سورة الكهف, الآية 29).
إن القرآن لا يشتمل على حد للردة العقدية أو عقوبة دنيوية على اقترافها، لا إعدام ولا دون ذلك، فهو ينذر بعقوبة أخروية عليها موكولة إلى الله تبارك وتعالى. كما أن الرسول (ص) لم يقتل مرتداً ردة عقدية طيلة حياته الشريفة. غير أن الإسلام شرع عقوبة على الردة العنيفة والهادمة لقيم الإسلام وثوابته. فالردة في الإسلام ثلاثة أنواع ولكل ردة علاج :
أولاً : الردة العقدية المسالمة : بمعنى خروج الإنسان من الإسلام بطريقة مسالمة لا تحدث فتنة, فلا يكون فيها تطاول على دين لإسلام ولا سعي إلى تقويض دولته. فهناك فرق بين حرية المعتقد والرأي والتعبير, بين التطاول والشتم والازدراء وبث الفتنة فيما ارتضته الأغلبية نظاماً عاماً للحياة الاجتماعية, فمن هنا وجب على المرتد الذي يمثل أقلية أن يحترم نظام الأغلبية, وإلا كان على الأغلبية أن تردعه.
ثانيا الردة الهادمة لقيم المجتمع وثوابته : وهي ردة ترمي إلى تقويض القيم التي ارتضتها الأغلبية واتخذتها منهجاً للحياة, فهذه الردة غير مسموح بها في الإسلام, ولا يفترق الإسلام في هذا الموقف عن المجتمعات الديمقراطية الحديثة, ولذا فهو يعاقب عليها بالنفي من الدولة, وغالباً ما تكون هذه الردة مصحوبة بالتآمر, فيكون من المناسب عندئذ توقيع العقوبات التي تطبق على من يخون النظام خيانة عظمى.
ثالثا الردة العنيفة (المسلحة) : وهي التي يقوم فيها المرتدون بشهر السلاح في مواجهة النظام وإحداث الاضطرابات التي تهز أمن المجتمع, وعقوبتها في الإسلام القتل. فلا رحمة ولا هوادة مع الذين يهددون أمن الوطن وسلامة مواطنيه ونظام الأغلبية, وهذا ما طبقه أبو بكر الصديق في حروب الردة والفتن التي أعقبت وفاة الرسول, صلى الله عليه وسلم.
ب) الضابط الثاني : تشريع مبدأ التبرؤ من أعمال الكافرين من ناحية, وكذلك من أشخاص المعتدين منهم من ناحية أخرى. وذلك من أجل التوفيق بين مصلحة المواطن المسلم في ولائه وحبه لدينه, وبين إتاحة مبدأ حرية التدين للمواطنين غير المسلمين. فالإسلام يأمر باحترام غير المسلمين, مع التبرؤ من أفعالهم المرتبطة بالكفر, كما يحظر مولاتهم في أمور الدين. أما الكافر الظالم والمعتدي على الناس والمجتمع, فقد أمر الإسلام بالتبرؤ من شخصه ومعاقبته. وذلك ما يسمى في المصطلحات الإسلامية بعقيدة الولاء والبراءة.
وإن كانت قضية الولاء والبراءة هذه, أصبحت قضية مؤرقة لكل مسلم غيور على دينه, فلم يعد كثير من المسلمين اليوم يعرفون حدود علاقاتهم مع الآخرين فيما يتعلق بالدين. وذلك هو السبب في ظهور اتجاهات ليست مبنية على آراء مؤصلة أدت إلى تعريض الإسلام للهجوم من غير المسلمين, إما خوفاً منه أو بغرض التخويف منه. ولذلك نجد اتجاهين في تحديد مفهوم عقيدة الولاء والبراءة عند المسلمين اليوم :
الرأي الأول : يرجع سبب البغض وعدم المولاة إلى الكفر في حد ذاته.
الرأي الثاني : لا يرجع سبب البغض وعدم المولاة إلى الكفر, ولكن إلى اعتداء الكافر.
وسبب ذلك يرجع إلى الاختلاف في فهم النصوص الشرعية.
وإذا قمنا بدراسة موضوعية لكافة النصوص التي تكلمت عن الردة, ثم أسقطناها إسقاطا صحيحا على الطبيعة المختلفة والمتنوعة لغير المسلمين, فسوف يتضح لنا بجلاء سبب التبرؤ لنعرف إن كان هو الكفر أم الاعتداء.
أولا : يقول الله تعالي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (سورة الممتحنة, الآية 1).
ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أن الله تعالى منع من اتخاذ الذين عادوه, وعادوا الرسول وأخرجوه هو والمؤمنين من ديارهم, أولياء وحظر مودتهم, وذلك بسبب سلوكهم العدواني, فالآية خاصة بالكفار المعتدين. قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (سورة الممتحنة, الآية 4). الآية تأمر المسلمين أن يقتدوا بأبي الأنبياء إبراهيم, عليه الصلاة والسلام, والذين معه, حيث إنهم تبرؤوا من الكفار, وكان ذلك بسبب العداوة والبغضاء التي بدت بين الطرفين, فقد كان الكفار يعتدون على أهل الإيمان والحق.
قال تعالى : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة الممتحنة, الآية 7). فهذه الآية الكريمة ترشد إلى إمكانية حلول المودة محل العداوة بين المؤمنين وغيرهم.
قال تعالى : {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة, الآية
.
قال الله تعالى : {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة يونس, الآية 41).
قال تعالى : {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (سورة هود, الآية 54).
قال الله تعالى على لسان إبراهيم الخليل : {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة الشعراء, الآيات 75 - 77).
قال الله تعالى على لسان نبيه لوط : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ} (سورة الشعراء, الآيتان 167 - 168).
قال الله تعالى مخاطبا حبيبه رسول الله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة الشعراء, الآيات 214 - 216).
قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُون * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي} (سورة الزخرف, الآيتان 26 - 27).
قال الله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} (سورة الحجرات, الآية 7).
قال تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة الشعراء, الآيتان 215 - 216). لم يقل فإن عصوك فقل إني بريء منكم, وإنما قال فإني بريء مما تعملون. فالتبرؤ يكون من العمل, وليس من الأشخاص أنفسهم.
ثانيا: لا شك أن إباحة الزواج من أهل الكتاب وجعل طعامهم حل للمسلمين ليشاركوهم الموائد, والأمر بمودتهم, وعند دعوتهم إلى الإسلام لا ينبغي أن تكون تلك الدعوة إلا بالتي هي أحسن {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (سورة العنكبوت, الآية 46), كل ذلك كفيل بتفنيد القول الذي يعمم عدم المولاة فيرجعها كلها وفي جميع الأحوال إلى الكفر ذاته وإلى أشخاص الكافرين في جميع الأحوال. فلو كان في مودة شخص على غير ملتنا قدحٌ في العقيدة لما أبيح الزواج من الكتابية, فلا زواج بدون مودة وألفة للزوجة وأهلها, وما من أحد ينكر وزن المرأة في الحياة الزوجية, وقد قال الرسول, صلى الله عليه وسلم : "إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" (أبو داود, الطهارة 2004. أحمد, الترمذي, الطهارة 105. أحمد, باقي مسند الأنصار 24999).
يقول الله تعالى : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} (سورة المائدة, الآية 5). إن هدف المخالطة وأكل الطعام هو جلب المودة والمحبة. وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزء من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة ؟ فالزواج من أقوى أوجه المودة، وتتولد منه أقوى روابط القرابة بين البشر، ولذا يقول الله, سبحانه وتعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (سورة الفرقان, الآية 54). فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم, إلا لو كان يبادلونهم المودة, وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم ؟ فضلاً عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاده منهم إن لم يواليهم! قال الله تعالي : {وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال, الآية 75), فهذه الآية الكريمة تقرر الولاية بين أولي الأرحام على العموم. "عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيْلِيِّ, قَالَ : كَانَ مُعَاذٌ بِالْيَمَنِ فَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ وَتَرْكَ أَخًا مُسْلِمًا, فَقَالَ مُعَاذٌ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ, اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ : إِنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. فَوَرَّثَهُ" (أحمد, مسند الأنصار 20998. أبو داود, الفرائض 2524).
قال تعالى : {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (سورة هود, الآية 113).
ثالثا : تكون البراءة واجبة تجاه الظالمين, سواء كانوا كفاراً أو مؤمنين. قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} (سورة الحجرات, الآية 7). إن الآية صريحة في معناها : وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان, ولم تقل وكره إليكم الكافر والفاسق والعاصي. وقد كان الرسول, صلى الله عليه وسلم, يدعو الله من أجل أشخاص لم يشأ الله لهم الهداية, فقال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (سورة القصص, الآية 56). ومعنى ذلك أن المؤمن يكن الحب والاحترام لأي شخص لم يوفق إلى الإيمان, ويحرص على دعوته لطريق الرشد والهداية, ولكن مشيئة الله العالم بأسرار الأنفس والقلوب هي الفيصل, ذلك أن الله لا يشاء أن يصرف قلب كافر لمجرد أن شخصاً آخر يدعو له دون أن يسعى هو نفسه إلى طريق الإيمان, فمشيئة الله قد وضعت جميع البشر بالتساوي أمام محنة الاختيار الحر بين الكفر والإيمان, دون أن تؤثر على إرادة أي منهم إرادة شخص آخر, وكل ما يمكن في هذا المقام هو النصح والإرشاد, دون القهر والإجبار. وكما قال الله تعالى في الوالدين المشركين : {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة لقمان, الآية 15).
وعلينا أن نذكر في هذا الصدد حديث الإيمان : "عَنْ أَنَسٍ, رضي الله عنه, عَنْ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ : لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (البخاري, الإيمان 12. مسلم, الإيمان 64. النسائي, الإيمان وشرائعه 4931), فإذا كان المؤمن يحب لنفسه الإيمان, فعليه أن يحبه لغيره, ذلك أن الناس كلهم إخوة في الإنسانية : "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ : قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ" (الترمذي, المناقب 3891. أبو داود, 4452. أحمد, باقي مسند المكثرين 8381). بل علينا أن تلوم أنفسنا على تقصيرنا في دعوة غير المسلمين, والإعراض عن مخاطبتهم بلغاتهم, فالإحصائيات المعنية بترجمة الخطاب الديني والكتب والمصادر الإسلامية تفضح عجز المسلمين المعاصرين عن دعوة الأمم إلى التعرف على الإسلام, وما يمكن أن يقال في هذا المقام أن هناك بعض الثقافات غير العربية قد حظيت بثراء المعرفة الإسلامية, ولكن بقية الثقافات - وهي الأغلب عدداً ووزناً مازالت فقيرة إلى العلم بالإسلام الصحيح. لماذا لا يتعاون المسلمون في سبيل إنشاء منظمة تعرف بالإسلام بكافة اللغات غير العربية, لتخرج خطاباً دينياً ناصعاً بلسان الجمهور المستفيد, في كتب وترجمات وبرامج إعلامية وقنوات فضائية وعلى الإنترنت ... ولنعالج مسألة خطيرة يلحظها الغرب علينا, ألا وهي أننا نغرق في مخاطبة أنفسنا وبلغتنا ونعيش وهماً بأننا نخاطب الغرب !
إذاً, فلا بد من التعامل بالبر والعدل والقسط مع الذين يخالفون لمؤمنين في العقيدة, تعزيزاًًً للمودة والسلم, وتوطيداً للروابط الطيبة التي يجب أن تسود بين البشر. طالما لم يعتدوا على المؤمنين ولم يقاتلوهم بسبب اختيارهم الديني ولم يقوموا بإخراجهم من بيوتهم وأوطانهم. هذا لأن الله تعالى يحب المقسطين القائمين على تحقيق العدل, فعلى المؤمن أن يبرهم ويعاملهم بالقسط والعدل. ويسري ذلك على الأفراد كما يسري على الدول, عملاً بقول الله تعالى : {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة, الآية
.
أما الذين اعتدوا على المؤمنين بالقتال بسبب الدين، فيظلمونهم في الحقوق ويخرجونهم من ديارهم أو يساعدون على إخراجهم, فإن الله ينهى عن موالاتهم والتحالف معهم. ومن يتحالف معهم وينصرهم ويؤيدهم فهو شريك لهم في الظلم {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} (سورة الممتحنة, الآية 9).
معنى الموالاة :
الموالاة في معناها العام تعني التآزر, وهي قد تكون بين أفراد, كما يمكن تكون بين الجماعات والدول. ويدخل في معناها التحالف الذي يكون عادة في حالة حرب أو خصومة ملتهبة بين طرفين أو أكثر, ويسعى أحدهما أو كلاهما إلى أسلوب التكتل لتقوية جانبه, فيلجأ إلى استمالة قوى أخرى لم تكن من حيث المبدأ طرفاً في الخصومة, ولكنها تصير كذلك بمجرد تحقق الحلف, فيكثر الخصوم في القضية الواحدة. وعكس ذلك البراءة أو التبرؤ الذي يعني إبداء فرد أو جماعة أو دولة تخليها عن طرف ما في حالة نزاع أو خصومة مع طرف أو أطراف آخرين.
الموالاة والتبرؤ في الإسلام تتعلق بالصفات وليس بالأشخاص أنفسهم :
إن التحديد جاء بالوصف وليس بالشخص . فالآية الأولى{لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} جاءت عامة في وصف الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين الذين ينبغي على المؤمنين أن يبروهم ويقسطوا إليهم, كما كان ذلك حال الحبشة التي لم تكن في التاريخ دولة مسلمة, ولكن دولة المسلمين سالمتها ولم تفرض عليها الجزية, وقد أخرج أبو داود حديثاً مرسلاً, ولكن معناه منسجماً تماماً مع منطق الحرب في الإسلام : "عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ رَجُلٌ مِنْ الْمُحَرَّرِينَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, عَنْ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ قَالَ : دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ" (أبو داود, الملاحم 3748). وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود, تعليق يرشد إلى أن الترك يعني الامتناع عن المبادأة بالحرب. وسبب ذلك أن الحرب لم تشرع في الإسلام إلا لأحد أمرين أو كليهما معاً : الأمر الأول : حالة الدفاع ضد معتدٍ أو طرف يحضر للاعتداء, والأمر الثاني : الجهاد ضد دولة يعترض حاكمها طريق وصول الرسالة إلى شعبه, فيصادر على حق الناس في العلم بالرسالة الخاتمة وحق كل في الاختيار الحر بين اعتناق الإسلام أو الإعراض عنه؛ والحبشة لم تكن تصد دعاة الإسلام ولا تدبر للاعتداء على المسلمين, فسالموها, بالرغم من أن شعبها لم يعتنق الإسلام. ولم ينقل التاريخ أن المسلمين أجبروا فرداً واحداً على الإسلام. ومجتمعاتنا المعاصرة مجتمعات منفتحة الثقافات؛ بل أكثر من ذلك, فسمة المجتمعات الديمقراطية أنها هي التي تسعى إلى جلب المعرفة بالإسلام إلى ثقافاتها, ولا تمنع أحداً من اعتناق ذلك الدين القيم الذي هو تتمة لسلسلة الرسالات التي أرسلها رب العالمين إلى البشر. أما الآية الثانية : {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}؛ فهي لا تحتاج إلى شرح أو تعليق, حيث إنها صياغة بليغة لمبدأ يقره العقل وتفهمه جميع الأمم.
ولأن الخصومة والموالاة لا تتعامل مع أشخاص معينين بذاتهم, بل مع صفات ومواقف قابلة للتغير والتبدل لدى البشر جميعهم؛ فيمكن إذاً التكلم عن تفصيلات تتطلب أحكاماً مختلفة :
أ) هناك مشرك بالله تعالى, أو ملحد, ولكنه مسالم مأمون الجانب : وهذا يجب التعامل معه بالبر والإحسان، عملاً بما ورد بالآيتين السابق ذكرهما من سورة الممتحنة, وعلينا أن ندعوه بلطف إلى الإسلام ونجاته من الكفر .
ب) هناك مشرك أو ملحد, ولكن يقتصر اعتداؤه على الاستهزاء بآيات الله تعالى دون التعدي المادي الجسدي على المؤمنين : وهذا يرد عليه بحزم وينصح بترك الاستهزاء بمقدسات المسلمين. ويكون التبرؤ منه في وقت محدد وهو وقت استهزائه بآيات الله, عز وجل, وينهى المؤمنون عن الجلوس معه حين يستهزئ بالله تعالى وآياته، فإذا تحدث في موضوع آخر فلا بأس بالجلوس معه وجعله محلاً للنصح والدعوة.
ج) هناك مشرك كافر في عقيدته ومجرم قاتل يسفك دماء المسلمين ويطردهم من ديارهم ويطاردهم في الأماكن الأخرى التي لجأوا إليها . هذا الصنف يجب قطع كل صلات المودة والمولاة له
د) هناك دول تعترف بالإسلام في قوانينها كدين من الأديان, وبالمسلمين كمواطنين عليهم واجبات المواطنة ولهم حقوقها دون تمييز, فيكون لهم بناء المساجد للعبادة, ومدارس لتعليم الدين الإسلامي, بل هناك. كما يوجد بهذه الدول من المواطنين غير المسلمين من يتطوع بدفع أجور الأساتذة بالمدارس الإسلامية, والأئمة بالمساجد, بل أكثر من ذلك, فمنهم من يقيم على نفقته المباني المخصصة لتدريس الإسلام وتخريج الأئمة, ويبذل المال من أجل تمكين المسلمين من شرح الإسلام ونشره؛ فهل يا ترى الإسلام يأمرنا بأن نبغض هؤلاء أو نتبرأ منهم أو نبدي لهم العداوة والبغضاء, أم أن ديننا يحثنا على أن نشكرهم ونكن لهم الود ونحب لهم الإيمان كما نحبه لأنفسنا فندعوهم بلطف إلى التعرف والتقرب من الإسلام.
هـ) هناك من الناس من هو مسلم بعقيدته, ولكنه يقترف الإجرام والعصيان, وحكم هذا هو بغض أعماله والتبرؤ منها حتى يتوب.
2- المفهوم الحقيقي للبراءة من الظالمين, وهم المعتدون :
البراءة معناها عدم طاعتهم في أمر الدين، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (سورة آل عمران, الآية 149).
البراءة من مداهـنتهم في أمر الدين, قال الله تعالى : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (سورة القلم, الآية 9).
3- طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية التي تكفل الحرية الدينية
أولا- تصحيح بعض المفاهيم :
المفهوم الأول : مفهوم الدولة الإسلامية : الدولة الإسلامية, مصطلح يقصد به عدة معان : أولها دوله الحق والعدل المؤسسة على المرجعية الإسلامية في جميع أمورها. كما قد يشير إلى دولة ديمقراطية يشتمل شعبها على أغلبية مسلمة حريصة على تفعيل تعاليم الإسلام, ولو لم توصف تلك الدولة صراحة بالصفة الإسلامية.
المفهوم الثاني : مفهوم الدولة المدنية, ويقصد بالمدنية نقيض العسكرية, فالدولة المدنية ليست نقيضا للثيوقراطية. فالذين يعترضون على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الدولة المدنية ذات الأغلبية المسلمة بحجة أن صفة الإسلامية تناقض المدنية هم مخطئون.
المفهوم الثالث : مفهوم الدولة الثيوقراطية : لم يعرف الإسلام الثيوقراطية أبدا, فالحاكم في الإسلام ليست له أيَّةُ صفة إلهية, فهو ليس مقدَّسًا ولا معصومًا في نظر المسلمين, كما أن ليس له سلطة دينية تخوله التعريف بالدين وتفسير نصوصه. إن الحاكم في الإسلام لا يعدو أن يكون فرداً قد وثق المسلمون بكفاءته فأولوه حراسة المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وهذه المصالح جميعها تتعلق بالدين بمفهومه الواسع الذي يضبط سياسة الدنيا دون إغفال للآخرة, ذلك العالم الذي يؤول الناس جميعاً إليه منذ رحيلهم بالموت المكتوب على البشر كافة, وهو المآل الذي لا مفر منه البتة. وقد قيل لأبي بكر: "يا خليفة الله, فقال : لستُ خليفةًَ لله ولكني خليفةُ رسول الله". وللحاكم الشرعي على الشعب حق السمع والطاعة، كما أن للشعب على الحاكم حق الإخلاص في الحكم وتحقيق العدل والمساواة, لأن سلطانه مكتسب من بيعتهم له وثقتهم فيه.
المفهوم الرابع : الدولة الديمقراطية : ونقصد بها الممارسة الديمقراطية (الانتخاب, التداول على السلطة, مراقبة الحاكم ومحاسبته, وعزله عند الاقتضاء) وليس فلسفة الديمقراطية التي تنطلق من منطلقات خارج الوحي.
ثانيا طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية :
الطبيعة الأولى : هي دولة دستورية : لها دستور تحتكم إليه وقانون ترجع إليه, ودستورها يتمثَّل في المبادئ والأحكام الشرعية التي لا تخالف القرآن الكريم, والسنة النبوية الصحيحة. ومهمة المقنن أو البرلمان تكون على طبيعتها وهي إنشاء القوانين, لكنه يحرص على أن تكون متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ومحققة لأهدافها. والاحتكام في هذه الدولة لا يكون لأمرٍ غيبيٍّ أو لعالِم من علماء الدين، وإنما يكون لقانون الذي لا يخالف الشريعة الإسلامية.
الطبيعة الثانية : هي دولةٌ شورى انتخابية, والحاكم فيها مسئول أمام الأمة, وحقّ كل فرد في الرعية أن ينصح الحاكم ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.
- رئيس الدولة : إن الحاكم في الإسلام ليس مفوضاً من الله بل هو وكيل عن الأمة, هي التي تختاره وهي التي تراقبه, وهي التي تحاسبه, وهي التي تعزله إذا استوجب العزل. وتاريخ الإسلام يحمل لنا قول أبي بكر الصديق, الرئيس الثاني للدولة الإسلامية : "من رأى منكم فيَ اعوجاجًا فليقومْني".
الطبيعة الثالثة : هي دولة يمكن أن تتعدد فيها الديانات والأحزاب والأعراق : عندما نشأت الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رئاسة رسول الله, صلى الله عليه وسلم, انبثقت عن تعددية عرقية وقبلية ودينية. وعند موت الرسول, صلى الله عليه وسلم, يمكن أن نلاحظ الحوار السياسي الذي دار بين الأحزاب التالية :
حزب المهاجرين : وهم الذين رشحوا أبا بكر الصديق لتولي رئاسة الدولة, وأسسوا اتجاههم على الحجج الآتية :
- إنهم الذين تحملوا أعباء الدعوة وحملوها في مهدها
- الرسول, صلى الله عليه وسلم, منهم
- هم من تحمل الأذى في سبيل الله في بداية الدعوة
حزب الأنصار : وهم الذين رشحوا سعد بن عبادة لتولي رئاسة الدولة, وأسسوا اتجاههم على الحجج الآتية :
- إن المدينة عاصمة الدولة هي وطنهم
- إنهم هم الذين استقبلوا الرسول والمهاجرين وآووهم
- إنهم هم الذين حموا الدعوة الإسلامية وقوي بهم الإسلام
الاتجاه الوسط : وهو دعوة إلى ثنائية التمثيل الحزبي في الحكم, فيكون خليفة رسول الله من المهاجرين, ووزرائه من الأنصار.
ودامت المداولات والنقاشات في سقيفة بني ساعدة ساعات من نهار تمخض الحوار فيها على اختيار أبي بكر الصديق رئيسا للدولة وانصرف كل مواطن إلى ممارسة مهامه أن في الحكم وان في الرعية
الطبيعة الرابعة : هي دولة مدنية وليست دولة عسكرية
الحاكم فيها ينتخب من طرف الشعب ويحاسبه ويعزله عند الاقتضاء
وهذا الحاكم هو الذي يعين القائد العسكري ويحاسبه ويعزله عند الاقتضاء
4- حقوق غير المسلمين في الدولة ذات الأغلبية المسلمة والمرجعية الإسلامية :
لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات, لهم الحق في المشاركة الفعلية في التنظيم السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي, وكذلك في تولي الوظـائـف وقيادة مؤسسات الدولة, بالتساوي مع المسلمين, وبدون شروط تميز غيرهم عليهم, سواء فيما يتعلق بالخصوصية الدينية أو العرقية, إلا ما كان متعلقا بالنظام العام الذي يقتضي أن تكون المناصب الدينية لمن ينتمي إلى الأغلبية, فلا ولاية لغير المسلم على المسلمين في أمور العقيدة والشريعة, كما أنه ليس لمسلم أن يتولى منصباً دينياً في الكنائس والمعابد. وكان لغير المسلمين كافة الحقوق السياسية على قدم المساواة مع المسلمين, مثل حرية التعبير والاجتماع، بشرط مفهوم تلقائيًً وهو الأمانة والصدق, فلا يتذرعون بهذه الحقوق لضرب أسس دولة الأغلبية المسلمة.
ولقد سمي غير المسلمين في الدولة التي تحتكم للإسلام في التاريخ بأهل الذمة, كلمة الذمة في اللغة العربية تعنى العهد, وتعنى العقد, وتعني الاتفاق, وفي المصطلح السياسي وقتئذ, كانت تعني عقد الأمان الذي يعني أن لهم كافة ما للمسلمين من حقوق, وألا يجبروا على مشاركتهم في الحروب التي كانت قائمة على أساس الدفاع عن الإسلام أو السعي إلى إيصال العلم به إلى الشعوب, وأفتى الفقهاء بسقوط الجزية عن الذمي الذي يحارب باختياره مع المسلمين, ولا تفرض عليهم الزكاة التي على المسلمين, في حين أنهم يستفيدون من بيت المال العام. وبناء على تلك الإعفاءات من الأعباء العامة, في حين أنهم يستفيدون من نضال المسلمين في حماية وطنهم وأنفسهم وأموالهم, فكان من الطبيعي فرض ضريبة عليهم تحقق شيئاً من التعادل. وقد نقل لنا التاريخ أن بني تغلب كانوا من العرب الذين تنصروا في الجاهلية, فامتنعوا عن دفع الجزية في عهد عمر بن الخطاب, معتبرين إياها انتقاصاً لحقوقهم التي يجب أن تكون متساوية مع العرب, وعرضوا دفع الزكاة التي يدفعها المسلمون, فقبل منهم الخليفة ذلك بعد المشورة, فكان ما دفعوه ضعف ما كان يجب أن يدفعوا من الجزية التي كانت تحسب فقط على أعداد الشباب الذكور القادرين على الحرب, وتسقط عن النساء والأطفال والعجائز. أما الزكاة فهي فريضة على كل مسلم يمتلك نصابها, من الشباب والأطفال والشيوخ والنساء.
وثيقة المدينة هي أول وثيقة في التاريخ تعترف بالتعددية الدينية :
لأول مرة نجد في هذا العقد كلمة الذمة. لكن وجدنا كلمة جديدة وليست الكلمة القديمة التي كانت معروفة, و ليست كلمة الذمة التي استعملها العرب قبل ذلك. وجدنا النبي (ص) يأمر بأن يكتب في هذه الوثيقة "و إن ذمة الله واحدة ( فى المادة ال15, و الوثيقة بها 47 مادة).القارئ لهذه الوثيقة يجد ان الرسول (ص) أنشأ أول نظام للمواطنة في التاريخ.
و لقد جاءت قضية الذمة و الجزية بعد حرب الروم. بعد ما حاول الروم الاعتداء على دولة الإسلام و حدثت المعركة المشهورة وهي غزوة مؤتة نزل القرآن يقول إن الذين يصنعون هذا و يقاتلون المؤمنين و يحاربون هذه الدولة لا يجوز أن يعقد معهم صلح. لكن الواجب أن تقاتلوهم حتى يظهركم الله عليهم. فإذا أظهركم الله عليهم, ماذا بعد ذلك ؟ هناك حلان في التاريخ القديم : إما أن يستعبدوا أو أن يقتلوا.
نص الوثيقة ، من السيرة النبوية ، لابن هشام :
قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله, صلى الله عليه وسلم, كتابا بين المهاجرين والأنصار, وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم :
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي, بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو عمرو بن عوف على ربعته