لأهمية الموضوع ، وقيمته إرتأيت أن أضغه بين بيد متصفحي المنتدىإزالة اللبس والإبهام عن تنفيذ حكم الإعدام2010.03.30
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] بقلم الدكتور عبد الرزاق قسوم
في زمن تعدم فيه شثى الوسائل -ثقافات شعوب بأكملها- لتمحى من مسرح الوجود فتتقهقر وتتولى، وفي عصر قتل الحريات واغتيال الإرادات وشنق رؤوس القيادات والزعامات لتعلق على المشانق فتتدلى وتتجلى. في عهد المفقودين جماعيا والمختطفين تعسفيا والمصفين -كمعارضين- جسديا ومعنويا والمشطويين من ذاكرة التاريخ في ساحات اللعب والمصلّى.في هذا الزمن المليئ بالارتداد السياسي والقتل من أجل الوصول أو الحفاظ على الكراسي، تثار في منابر أحزابنا، وأعمدة إعلامنا قضية تنفيذ حكم الإعدام باسم حماية الحق في الوجود بين الأنام وشغل الرأي العام عن الأهم بالأمر الهام.
- رحماك يا رب! هل فرغنا من حل كل مشكلات الفساد، وقضايا الاستبداد والانسداد، هل انمحى الظلم من حياة العباد، وعمّ العدل كل ساحات البلاد و نعمنا بالاستقرار الذي زرع الأمن فعمّ ربوعنا وساد؟! أم أننا في موقع من عنيه الشاعر القائل:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
و قتل شعب كامل مسألة فيها نظر
إنّ حالنا يشبه حالة الحاكمة الفرنسية التي أطلت من شرفات قصرها على متظاهرين مطالبين بالعمل وتأمين الخبز، فقالت لمستشاريها: قولوا لهم بأنّ يأكلوا الڤاطو ما داموا لم يجدوا الخبز.
-إنّها لمفارقات غريبة هذه التي نحياها في واقعنا الاجتماعي والسياسي، فهل ضمنّا وجود القاضي العادل، والقانون الكامل، والحاكم الفاضل، والمجتمع العامل، وإلاّ كيف نوفق بين تفشي كل هذه الآفات الإجرامية التي تودي في كل يوم، وفي كل ساعة بضحايا أبرياء والعفو عن مجرمين متوحشين أشقياء. إنّه ممّا لا شك فيه أنّ الجانب الإنساني في كل قضايا الإجرام سيظل ديدن كل انسان واع بإنسانيته. وسواء أكان موضوع تنفيذ حكم الإعدام وعدمه مطروحا للنقاش تحت القانون المدني الوضعي أو القانون السماوي الديني فإنّ مجموعة من الإجراءات الوقائية والردعية لا بدّ أن تكون مصاحبة للتطبيق. فليس من الحكمة ولا من العقل ولا من الدين فتح كل الأبواب أو غلقها في دائرة تطبيق أي قانون وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصير إنسان أو مجتمع بواسطة تنفيذ حكم الإعدام.
لذلك بات من الضروري تسليط الضوء على بعض أنواع اللبس والإبهام في معالجة قضية تنفيذ الإعدام، ابراء للذمة، وتحريرا للضمير الانساني المسلم من كل أنواع الإبهام والأوهام. ولعلّ أهمّ العناصر التي يجب التركيز عليها يمكن أن تتجلى في المعطيات الآتية:
1- إنّ قضية تنفيذ حكم الإعدام في أي مجتمع يجب أن تخضع لثقافة هذا المجتمع بالذات وتحديد مدى بلوغ درجة الوعي فيه ومستوى قناعاته الدينية والقانونية في ربط شبكة علاقاته الانسانية عموما والاجتماعية منها بوجه خاص.
2- إنّ الوصول إلى حكم حاسم في هذا الموضوع يجب أن يخضع لنوعية المرجعية التي تستمد منها النصوص سواء تلك النصوص المقدسة أو المتفق عليها ضمن مدونة الحق المدني التي يكفلها الدستور.
3- إنّ الاجتهاد في هذا الأمر ينبغي أن يظلّ الحق المكفول للقاضي في تطبيقة للقانون بإحكام، ولعالم الدين في اصداره للأحكام، وللمجتمع الأهلي في مدى تعامله مع تغلغل درجة الإجرام.
إنّ قناعة الانتماء بقدر ما تمثل عامل عطاء يجب أن لا يتخذ عامل ردع أو اقصاء. فإذا كنّا نسلم بعدم التعسف في ليّ نصوص الدين ومحاولة اخراجها من دائرة ما وضعت له من التعقل والحكمة، فإنّ ذلك ينبغي أن يبقى المنبه الذكي لضمائرنا ووعينا في حماية المجتمع من ضبابية النصوص وشراسة ووحشية اللصوص.
نحن نسلم بعدم غلق باب تنفيذ حكم الإعدام بوصفه وسيلة لا غاية. فهناك أنواع من الإجرام بلغت من التوحش والفظاعة درجة لا يمكن التعامل معها إلاّ بالاستئصال تماما كما يتعامل الطبيب في جسم الإنسان مع عضو بلغ درجة متطورة من الخطورة والتعفن بحيث لا ينفع معه إلاّ البتر حماية لبقية الجسم.
ولعلّ هذه الحكمة المتوخاة من وضوح النص القرآني الذي لا يقبل تأويلا أو تضليلا حينما يخاطبنا الله بقوله (يا ايّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) سورة البقرة، الآية 178.
أو قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) سورة البقرة، الآية 179.
إنّ النص القرآني وهو يؤكد على على العدل في اصدار الأحكام وعلى إنصاف المظلوم ضحية الإجرام والأخذ بحقه من قاتله أو ظالمه، لم يغفل البتة الجانب الانساني جانب العفو والرحمة في التطبيق (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان).
وإلاّ فما معنى تأكيد الدستور الذي صادقنا عليه جميعا وتنصيصه في مادته الثانية بأنّ الإسلام هو دين الدولة. فهل نكفر ببعض الإسلام ونؤمن ببعض؟!.
ولمن شاء التأكد ممّا وصلت إليه درجة الإجرام في بلادنا أن يتفقد واقع السجون ليطلع على درجة الحيوانية الوحشية التي آل إليها بعض المجرمين الذين خرجوا من دائرة الانسانية مطلقا ودخلوا في زمرة الحيوانية الوحشية المطلقة التي تجعلهم وحوشا هائجة يصبح القضاء عليها واجبا مقدسا لحماية المجتمع تماما كما يتطلب وجوب تجنيد المجتمع ضد حيوانات ضارية هاجمت مدينة هادئة مطمئنة فيصبح القضاء عليها أمرا جماعيا انسانيا مقدسا. ويبقى بعد ذلك حق القاضي الأول في البلاد في اصدار العفو عن المحكوم عليهم بالإعدام، أو تخفيفه أمرا قائما يكفله الدستور الإلاهي والمدني. لذلك نعتقد أنّ عملية النقاش الدائر اليوم في بلادنا حول مسألة تنفيذ حكم الإعدام أو إلغائه نقاش عقيم، ولا يحتاج لكل هذه الضجة الإعلامية، فضلا عن التنابز بالألقاب والعناوين، في أمر نعتقد أنّه محسوم بالنص، والعقل، والقانون.
وما يمكن أن ننتهي إليه كنتيجة لإخراج هذا النقاش من دائرة الظلام الفكري، إلى دائرة النور العقلي، هو التأكيد على بعض الحقائق، لتخليص القضية من أيدي المستغلين لحساسيتها، والمتاجرين باسم خطورتها، وأهمها:
1- العمل على توفير الحرية الكاملة للقاضي في محاكمته ومداولته، والمحامي في مرافعته ومنافحته، حتى تضمن المحاكمة العادلة لأي متهم، مهما بلغت خطورة تهمته، وفظاعة ما ينسب إليه. إنّ حرية المحاكمة للقاضي والمحامي هي الضامن الحقيقي لإصدار الأحكام التي تخلّص ضمير القاضي والمحامي من كلّ أنواع الضغوط التي يصنعها الترهيب أو الترغيب.
2- إنّ الهاجس الانساني الذي يسكننا والمتمثل في الحفاظ على حق الإنسان في الحياة وما ينتج عن هذا الحق من حقوق أخرى، لا ينبغي أن يدفعنا إلى محادّة الله ورسوله: (إنّ الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلّين) سورة المجادلة، الآية 20.
3- إنّ تنفيذ حكم الإعدام ليس غاية في حدّ ذاته، وإنّما هو وسيلة لوقاية وحماية المجتمع من أنواع الإجرام التي تودي ببعض أفراده تحت طائلة دوافع شتى. كما أنّ تنفيذ الإعدام لا يتم إلاّ بعد استنفاد مجموعة أخرى من الإجراءات الوقائية، كالتثقيف والتوعية، والتربية وغيرها، فإذا لم تنفع كل تلك الإجراءات فلن يبق كما يقول مثلنا العربي إلاّ الكي وآخر الدواء الكي.
4- إنّ المطالبة بإلغاء تنفيذ حكم الإعدام، ينبغي أن لا يأتي من اتباعية معينة لثقافة معينة أو مجتمع بعينه، فلكل ثقافة، ولكل مجتمع خصوصيات في تلوين الإجرام المحيط به، ونوعية الأحكام التي تتحكم في مصائره. إنّ أي إجراء نطالب به، يجب أن ينبثق من صلب واقعنا، وما تتطلبه وسائل العلاج لأمراضه وآفاته.
- لذلك فإنّ أهم ما نؤكد عليه، في هذه المسألة، هو أنّه من الخطأ غلق باب فتحه الله، ووضعه في يد المشرعين وفقهاء القانون ليعملوا فيه عقولهم، واجتهادهم، ويحكّموا فيه ضمائرهم ومصائرهم، وتبقى العبرة في البدء والختام، هي مدى استجابتنا لمتطلبات المجتمع، ومدى قدرتنا على حمايته من مختلف الآفات التي تفتك به. أمّا سحب القضية من محورها الانساني القانوني الديني إلى المحور الحزبي السياسي الانتخابي للمزايدة به، فذلك هو الإهدار الحقيقي لحق الإنسان في الحياة، وفي الوجود لكي نضمن له حياة شريفة، ووجودا حقيقيا عزيزا، وبذلك فقط نكون قد أزلنا كلّ لبس وكلّ إبهام عن مسألة تنفيذ حكم الإعدام.
منقول موقع جريدة الشروق