جهاده خارج فلسطين
ولم يكن الشيخ أمين
الحسيني مجاهدًا على أرض فلسطين وحدها؛ بل كان كالغيث أينما وقع نفع، فجاهد لأجل
البوسنة كما جاهد لأجل فلسطين، وأيد الثورة في العراق ضد الاحتلال، وطالب بتحرير
كل أراضي المسلمين من تحت وطأة المحتل بعد نهاية الحرب
الهروب
واللجوء السياسي
استطاع
المفتي التسلل والفرار ـ بعد تعرضه لمشاق كبيرة ـ إلى لبنان، وعند وصوله قامت
مظاهرات تأييد له واحتجاجًا على السلطات الفرنسية التي قررت نفيه إلى باريس لكنهم
تراجعوا، وفي هذه الأثناء حلت الحكومة البريطانية اللجنة العليا ونفت الزعماء إلى
الخارج، لكن الحسيني قبل خروجه من فلسطين أعد لاستئناف الثورة، فلما نجح في
الإفلات تفجرت الثورة مرة أخرى، وجعل يشرف على إدارتها من لبنان ، كما كون اللجنة
المركزية للجهاد
جهاده
في العراق
تأزمت
الحال في صيف 1939 في أوروبا، وتقاربت فرنسا وبريطانيا، وطلبت بريطانيا من فرنسا
أن تضيق الخناق على المجاهدين الفلسطينيين في سورية ولبنان، ووضع المفتي تحت
المراقبة الشديدة من مختلف طبقات المجتمع من موظفي الأمن العام حتى التجار إلى
الباعة، لكن بفضل الله ورعايته استطاع في غفلة من الفرنسيين الفرار إلى العراق بعد
مكوثه سنتين في لبنان.
كان
العراق في تلك الفترة يتمتع باستقلال نسبي، وكان أكثر البلدان العربية ملاءمة
لقبول لجوء المفتي إليه، وكان قد وصل إلى العراق قبله مائتا مجاهد فلسطيني، فأظهر
لهم الشعب والحكومة العراقية كرمًا عظيمًا، وبانتقال سماحته إلى بغداد أصبح العراق
مركز الثقل للقضية الفلسطينية. وفي العام الأول من وجوده في بغداد قام بتأسيس (حزب
الأمة العربية) وقد كان للحزب دستور تلخصت أهدافه السياسية بالاستقلال للبلدان
العربية من نير الاستعمار والوحدة بينها، وقد تألفت النواة الأولى للحزب برئاسة
المفتي، فانضم إلى هذا الحزب السري عدد من السياسيين والعسكريين العراقيين وعدد من
السياسيين العرب الذين كانوا في العراق في ذلك الوقت. انتهز المفتي فرصة وجوده في
بغداد، فطلب من السلطات العراقية أن تقوم بتدريب الفلسطينيين تدريبًا عسكريًا،
ودخل عدد كبير منهم في مدرسة ضباط الاحتياط وحصلوا على شهادتها، وكذلك في كلية
الأركان والمعاهد العسكرية وأتموا تدريبهم فيها.
كان
الحاج أمين يتمتع بسمعة وطنية كبيرة من جميع الأطراف في العراق، ازدادت نقمة
الإنجليز على المفتي أمام هذا العمل الدؤوب الذي كان لصالح العراق وقضية فلسطين،
وزاد هذه النقمة أنه استطاع أن يحسن الجو بين السعودية والعراق، مما أدى إلى تهيئة
البلدين لتحقيق وحدة مستقبلية.
حاول
الإنجليز اعتقال المفتي، لكنه استطاع الإفلات من أذاهم والهروب إلى إيران، ولم تطل
إقامته هناك بسبب احتلال القوات الروسية والبريطانية المشتركة للعاصمة طهران حيث
كان يقيم، واستطاع بعد جهد ومشاق، السفر إلى إيطاليا عبر تركيا بمساعدة الطليان،
ومن إيطاليا توجه إلى ألمانيا، حيث حل ضيفًا على الحكومة الألمانية.
وأثناء
إقامة المفتي في ألمانيا، وصل إليها رشيد عالي الكيلاني، فتقدم الاثنان بعدة
مشاريع لتصريح رسمي أو معاهدة بين العرب والمحور تضمن للعرب الاعتراف من قبل
المحور بالحرية والاستقلال للأقطار العربية الواقعة تحت الحكم البريطاني، وبالعمل
للقضاء على الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وبعد موافقة هتلر تمكنا من الحصول على
تعهد رسمي من ألمانيا وإيطاليا موقع عليه من وزيري الخارجية الألماني والإيطالي،
مؤيدًا مطالبهم وموضحًا استعداد الحكومة الألمانية للمشاركة مع العرب في الكفاح ضد
العدو المشترك الإنجليز واليهود حتى يتحقق النصر.
كما
طلب المفتي من السلطات الألمانية أن توسع مجال عملها بشكل يتمكن فيه كل العرب
المقيمين في بلاد المحور من الانضمام إلى الجيش الألماني للتدريب وتكوين جيش عربي،
وبالفعل قررت الحكومة الألمانية إنشاء (الجيش العربي) ومد هذا الجيش بالأسلحة
اللازمة، ولتحقيق هذا بنى الألمان مستودعًا كبيرًا تخزن فيه الأسلحة الخفيفة،
ووضعوا تحت تصرف الجيش أربع طائرات لنقل العتاد ووضعه في مخابئ سرية لتدريب
المجاهدين في فلسطين.
الشيخ
أمين الحسيني والبوسنة
أثناء
إقامة المفتي في ألمانيا سمع بالمآسي التي حلت بالشعب البوسني المسلم عندما تصارعت
عليه القوميتين الكرواتية والصربية، حيث اجتمع بزعماء بوسنة وهرسك، وبعد البحث
معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على حياة البشانتة ومنع وقوع
المذابح فيهم، وافقت الحكومة الألمانية على تجنيد الشبان منهم وتسليحهم للدفاع عن
أنفسهم وعائلاتهم، كذلك اتفق المفتي مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة
لتوزيعهم على وحدات الفرق البوسنية الذين زاد عدهم عن 100 ألف مقاتل، وقد أنشأ
المعهد واختير له عدد من علماء البشناق لتوجيه أولئك الأئمة، وأنشأ المفتي كذلك
بالاتفاق مع الألمان معهدًا آخر في (دردسن) لتخريج الأئمة .
ولما
شرع الحلفاء بالزحف على الأراضي الألمانية عام 1945 انتقل المفتي إلى باريس، ومن
باريس إلى مصر حيث حل ضيفًا على الملك فاروق.
الهيئة
العربية العليا لفلسطين
وفي
مصر قام المفتي بتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته حيث نظم الحركة
الوطنية الفلسطينية تنظيمًا حديثًا، وقرر إعداد الشعب لخوض الكفاح المسلح ضد
الصهيونيين والإنجليز، كما أعاد تنظيم جيش الجهاد المقدس وأسند قيادته إلى عبد
القادر الحسيني وأنشأ المفتي كذلك منظمة الشباب الفلسطيني التي انصهرت فيها منظمات
الفتوة والجوالة والكشافة .
وبالرغم
من الاستعدادات العربية إلا أن ميزان القوى بين العرب واليهود في كل النواحي لم
يكن متكافئًا، وحدثت النكبة في 14 أيار 1948، ظل المفتي بعدها يعمل للدفاع عن قضية
فلسطين حيث ألف حكومة فلسطينية في منطقة غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي أطلق
عليها (حكومة عموم فلسطين) لتتولى شؤون الكفاح. لكن التواطؤ والمؤامرات على القضية
ظل مستمرًا يجمد نشاط وعمل هذه الحكومة بعد أن أرغمت على الانتقال إلى مصر، وكذلك
حُرمت الهيئة العربية العليا من حرية العمل والنشاط، وأغلقت في وجهها الصحف
والمجلات ومحطات الإذاعة، بينما واصل الأعداء مساعيهم لتصفية القضية وكانت خطتهم
الجديدة نقل القضية من أيدي أصحابها إلى الجامعة العربية، فتقرر إنشاء (إدارة خاصة
بفلسطين) في مجلس الجامعة تتولى القضية الفلسطينية من جميع نواحيها.
قامت
في مصر ثورة يوليو 1952 فاستبشر المفتي خيرًا، ورحب بالعهد الجديد برئاسة جمال عبد
الناصر، إلا أن روائح الحل السلمي للقضية بدأت تطل من جديد، فخمدت قضية فلسطين
وتحولت إلى قضية لاجئين، واتفقت الأمم المتحدة مع الرئيس جمال عبد الناصر على حل
القضية خلال عشر سنوات مقابل ثلاثة آلاف مليون دولار تدفع لمصر وسورية والأردن
ولبنان مقابل توطين اللاجئين من فلسطين.
وفجأة
وبدون سابق إنذار، هبت الصحف المصرية الخاضعة لإشراف الحكومة تشن حملة قاسية ضد
الهيئة العربية العليا ورجالها، وتعرضهم لاتهامات باطلة وافتراءات كاذبة جزاء
تنبيههم الفلسطينيين والرأي العام العربي لذلك الاتفاق الذي تم بين عبد الناصر
وهيئة الأمم المتحدة، مما اضطر المفتي ورجاله مغادرة القاهرة إلى لبنان عام 1959.
استأنف المفتي نشاطه في سبيل فلسطين من العاصمة اللبنانية، وظل ينبه
الزعماء العرب إلى الخطر الصهيوني والمطامع اليهودية التي ستتعدى فلسطين إلى الأقطار
المجاورة، ومد نشاطه إلى الدائرة الإسلامية حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة
المكرمة، نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل
هذا المنصب طيلة حياته، إلى أن توفي ـ رحمه الله
وكان الشيخ أمين
الحسيني قد أصدر فتوى اعتبرت من يبيعون أرضهم لليهود والسماسرة الذين يسهلون هذه
العملية خارجين عن الدين الإسلامي ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين. ونشط في شراء
الأراضي المهددة بالانتقال إلى أيدي اليهود وضمها إلى الأوقاف الإسلامية.
ظل أمين
الحسيني فارسًا في الميدان، لم يأبهْ بتقدُّم السن ولا اعتلاء الشيب حتى وافته
المنية يوم 14 يوليو 1974م، ودُفِن في مقبرة الشهداء بعد رحلةِ جهاد كبيرة.