كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:35 | |
| غزوة فتح مكة قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ. سبب الغزوة قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق. وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له: [الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له: رافع. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب). ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة. أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في المدة). وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها). وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته. وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله. والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال. الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري. ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد؟). الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها. وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد. قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن). | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:37 | |
|
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً. فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس: النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هــذا ســلاح كامــل وألَّه وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة **
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
الجيش الإسلامي بذي طُوَى
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا).
وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه.
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجيش الإسلامي يدخل مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها.
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه. وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة. كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي على بابي.
فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا.
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجوهها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط). ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.
الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي هناك. ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
لا تثريب عليكم اليوم
ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء).
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف). | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:39 | |
| بلال يؤذن على الكعبة
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (لقد علمت الذي قلتم) ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك.
إهدار دم رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب.
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه، فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة.
وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه.
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: (اقتله) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين.
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي.
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه.
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت.
قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، قتله على. وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب.
إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلني بالخيار شهرين. قال (أنت بالخيار أربعة أشهر) ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول.
وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح:
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: (أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب).
وفي رواية: (لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر).
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد: (يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله).
وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبو لأبي شاه).
تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة
ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم).
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا)، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تسرقن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: (ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟
فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلناهم كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (ولا يأتين ببهتان) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال: (ولا يعصينك في معروف) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.
وفي الصحيح: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك. قال: (وأيضا، والذي نفسي بيده) قالت: يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: (لا أره إلا بالمعروف).
إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره.
السرايا والبعوث
1ـ ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ـ سنة 8 هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم. وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجع إليها سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل رأيت شيئا؟) قال : لا قال: (فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها) فرجع خالد متغيظًا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا).
2ـ ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه قال: لا تقدر على ذلك قال: لم ؟ قال تمنع قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
3ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئًا.
4ـ ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة ـ 8هـ ـ إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيرًا، فأمر يومًا أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال : (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدًا) مرتين.
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته).
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول.
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تمامًا. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين. | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:40 | |
| المرحلة الثالثة وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عامًا. وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدًا فاصلا بين السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشًا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب. ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين: 1ـ صفحة المجاهدة والقتال. 2ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظرًا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب. ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات. مُجَرِّب الحروب يُغَلِّط رأي القائد ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير، وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن واللّه، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك. ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً: واللّه لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي: يا ليتنـي فيها جـَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ أقود وطْفَاءَ الزَّمَــعْ ** كأنها شـاة صَدَعْ سلاح استكشاف العدو وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم، قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما تري. سلاح استكشاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل. الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين وفي يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8 هـ ـ غادر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكةـ وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة. وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد. ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء اللّه)، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي. وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنْوَاط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: (اللّه أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسي: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم). وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش: لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الجيش الإسلامي يُباغَتْ بالرماة والمهاجمين انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد. وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الأحمر ـ وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل: ألا بطل السِّحْر اليوم. وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول: (هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه) ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار. تسعة على قول ابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاًمن المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلممائة رجل. وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول: (أنــا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب) بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلاً: (اللّهم أنزل نصرك). رجوع المسلمين واحتدام المعركة وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة، قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخري كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: (الآن حَمِي الوَطِيسُ). ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال: (شاهت الوجوه)، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا. انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن. وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة:25، 26] حركة المطاردة ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم. الغنائم وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف. وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها. غزوة الطائف وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن. ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم: أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوماً، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر. ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة. ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار. فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً. وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم. ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة. ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (اغدوا على القتال)، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: (إنا قافلون غداً إن شاء اللّه) فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون). وقيل: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال: (اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم). قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة. أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها. وأعطي صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: (أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً). ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: (أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم). وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة. الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتي بالاعتراض. روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم: لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي. قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة). فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا. وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه؟ وعالة فأغناكم اللّه؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم؟) قالـوا: بلـي، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ. ثم قال: (ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول اللّه؟ للّه ورسوله المن والفضل. قال: (أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك). (أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار). فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا: رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا. قدوم وفد هوازن وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا: يا رسول اللّه، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام: فامنن علينا رسول اللّه في كـرم ** فإنـك المرء نرجـوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر وذلك في أبيات. فقال: (إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال: (إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا)، فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس)، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال الأقْرَع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عُيَيْنَة بن حِصْن: أما أنا وبنو فَزَارَة فلا.وقال العباس بن مِرْدَاس: أما أنا وبنو سُلَيْم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه علينا)، فقال الناس: قد طيبنا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال: (إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم)، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية. العمرة والانصراف إلى المدينة ولما فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجِعْرَانة أهلَّ معتمراً منها، فأدي العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ.
| |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:41 | |
| البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستقبل الوفود، ويبعث العمال، ويبث الدعاة، ويَكْبِتُ من بقي فيه الاستكبار عن الدخول في دين اللّه، والاستسلام للأمر الواقع الذي شاهدته العرب. وهاك صورة مصغرة من ذلك. المصدقون قد عرفنا مما تقدم أن رجوع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان في أواخر أيام السنة الثامنة، فما هو إلا أن استهل هلال المحرم من سنة 9 هـ، وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقين إلى القبائل، وهذه هي قائمتهم: 1 ـ عُيَيْنَةُ بن حصن إلى بني تميم. 2 ـ يزيد بن الحُصَيْن إلى أسْلَم وغِفَار. 3 ـ عَبَّاد بن بشير الأشهلي إلى سُلَيْم ومُزَيْنَةَ. 4 ـ رافع بن مَكِيث إلى جُهَيْنَة. 5 ـ عمرو بن العاص إلى بني فَزَارَة. 6 ـ الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب. 7 ـ بشير بن سفيان إلى بني كعب. 8 ـ ابن اللُّتِْبيَّة الأزدي إلى بني ذُبْيَان. 9 ـ المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء ـ وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها. 10 ـ زياد بن لبيد إلى حضرموت. 11 ـ عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد. 12 ـ مالك بن نُوَيْرَة إلى بني حَنْظَلَة. 13ـ الزِّبْرِقَان بن بدر إلى بني سعد ـ إلى قسم منهم. 14 ـ قيس بن عاصم إلى بني سعد ـ إلى قسم آخر منهم. 15 ـ العلاء بن الحضرمي إلى البحرين. 16 ـ علي بن أبي طالب إلى نجران ـ لجمع الصدقة والجزية كليهما. وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم سنة 9 هـ، بل تأخر بعث عدة منهم إلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليها. نعم كانت بداية بعث العمال بهذا الاهتمام البالغ في المحرم سنة 9 هـ، وهذا يدل على مدي نجاح الدعوة الإسلامية بعد صلح الحديبية، وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس في دين اللّه أفواجاً. السرايا وكما بعث المصدقون إلى القبائل، مَسَّتِ الحاجة إلى بعث عدة من السرايا مع سيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة، وهاك لوحة تلك السرايا: 1ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ في المحرم سنة 9 هـ ـ إلى بني تميم، في خمسين فارساً، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها: أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية. وخرج عيينة بن حصن يسير الليل، ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء فولي القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدي وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رَمْلَة بنت الحارث. وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا، فخرج، فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضي حتى صلي الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عُطَارِد بن حاجب فتكلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمَّاس ـ خطيب الإسلام ـ فأجابهم، ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر، فأنشد مفاخراً، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة. ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم. 2ـ سرية قُطْبَة بن عامر إلى حي من خَثْعَم بناحية تَبَالَة، بالقرب من تُرَبَة في صفر سنة 9 هـ. خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النَّعَم والنساء والشاء إلى المدينة. 3ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاَب في ربيع الأول سنة9هـ. بعثت هذه السرية إلى بني كلاب ؛ لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم رجلاً. 4ـ سرية علقمة بن مُجَزِّرِ المُدْلِجي إلى سواحل جُدَّة في شهر ربيع الآخر سنة 9هـ في ثلاثمائة.بعثهم إلى رجال من الحبشة، كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَرْصَنَة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهي إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا. 5ـ سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيئ يقال له: الفُلْس ـ ليهدمه ـ في شهر ربيع الأول سنة 9 هـ. بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة الفلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلوا الصفي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ولم يقسموا آل حاتم. ولما جـاءوا إلى المدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قائلـة: يا رسول اللّه، غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمُنَّ على، منّ اللّه عليك. قال: (من وافدك؟) قالت: عدي بن حاتم،. قال: (الذي فر من اللّه ورسوله؟) ثم مضي، فلما كان الغد قالت مثل ذلك، وقال لها مثل ما قال أمس. فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمن عليها، وكان إلى جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لها: سليه الحِمْلان فسألته فأمر لها به. ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغباً أو راهباً، فجاءه عدي بغيرأمان ولا كتاب. فأتي به إلى داره، فلما جلس بين يديه حمد اللّه وأثني عليه، ثم قال: ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّك أن تقول: (لا إله إلا اللّه؟ فهل تعلم من إله سوى اللّه؟) قال: لا. ثم تكلم ساعة ثم قال: (إنما تفر أن يقال: اللّه أكبر، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟) قال: لا. قال: (فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصاري ضالون). قال: فإني حَنِيف مسلم، فانبسط وجهه فرحاً، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار. وفي رواية ابن إسحاق عن عدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلسه بين يديه في داره قال له: (إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن رَكُوسِيّا؟) قال: قلت: بلي، قال: (أو لم تكن تسير في قومك بالمِرْبَاع؟).قال: قلت: بلي. قال: (فإن ذلك لم يحل لك في دينك). قال: قلت أجل واللّه. قال: وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يُجْهَل. وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عدي، أسلم تسلم). فقلت: إني من أهل دين. قال: (أنا أعلم بدينك منك). فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: (نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟) فقلت: بلي، قال: (فإن هذا لا يحل لك في دينك). قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها. وروي البخاري عن عدي قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا اللّه، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسري، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، ويطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله منه...) الحديث وفي آخره: قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللّه. وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (يخرج ملء كفه).
غـــزوة تبـــوك في رجب سنة 9هـ إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجري تماماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية، واستراح المسلمون لتعليم شرائع اللهّّ، وبث دعوة الإسلام. سبب الغزوة إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم. ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يري أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان. ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة. الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغَسَّان وكانت الأنباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان.ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهراً في هذه السنة ـ 9هـ ـ وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، فسري فيهم الهم والحزن والقلق. يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه... الحديث. وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نساءه... الحديث. وهذا يدل على خطورة الموقف، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله. ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضِّرَار، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه، حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه. الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطي قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير. زيادة خطورة الموقف والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة. الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخري، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة... تذهب هذه المكاسب بغير جدوي. كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام. الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان ولما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم. وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: (ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال. وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم. ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}[التوبة: 79]. الجيش الإسلامي إلى تبوك وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: سِبَاع بن عُرْفُطَةَ، وخلف على أهله على بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغَمَصَ عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي). وتحرك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ. ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القُرَى ـ فاستقي الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً)، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين)، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي. واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوي الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء. ولما قرب من تبوك قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي)، قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (هل مسستما من مائها شيئاً؟) قالا: نعم. وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول. ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقي الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جناناً). وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه)، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ. وكان دأب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخيركليهما. الجيش الإسلامي بتبوك نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتي بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها، وكتب لصاحب أيلة: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر). وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له: (إنك ستجده يصيد البقر)، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّهصلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء. وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير. الرجوع إلى المدينة ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفي الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة. فبينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول اللّه تعالي: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74]. ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال: (هذه طَابَةُ، وهذا أحُدٌ، جبل يحبنا ونحبه)، وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن: طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع وكانت عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منها عشرين يوماً في تبوك، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا. وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:42 | |
| المُخَلَّفون
وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[ آل عمران:179]. فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم اللّه، ثم تاب عليهم.
ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه.
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم.
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة: (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ)، قـالوا: يا رسول اللّه، وهــم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة).
أثر الغزوة
وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوي قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيداً ولا مناصاً.
ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم، حتى نهي عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً، لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة.
ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة.
نزول القرآن حول موضوع الغزوة
نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور.
بعض الوقائع المهمة في هذه السنة
وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ:
1 ـ بعد قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته.
2 ـ رجمت المرأة الغامدية، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعدما فطمت ابنها.
3 ـ توفي النجاشي أصْحَمَة، ملك الحبشة، في رجب، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة.
4 ـ توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، فحزن عليها حزناً شديداً، وقال لعثمان: (لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها).
5 ـ مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر. | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:46 | |
| حج أبي بكر رضي الله عنه نظرة على الغزوات الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً الـوفـــود حج أبي بكر رضي الله عنه وفي ذي القعدة أو ذي الحجــة من نفس السنة ـ 9 هـ ـ بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبــا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم نزلت أوائل سورة براءة بنقض المواثيق ونبذها على سواء، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك، وذلك تمشياً منه على عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقي على بأبي بكر بالعَرْج أو بضَجْنَان، فقال أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال علي: لا، بل مأمور. ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام على بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجل لهم أربعة شهور، وكذلك أجل أربعة أشهر لمن لم يكن له عهد، وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً فأبقي عهدهم إلى مدتهم. وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالاً ينادون في الناس: ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَان. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تُبْدِئُ ولا تُعِيدُ بعد هذا العام. نظرة على الغزوات إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه، لا يمكن لنا ولا لأحد ممن ينظر في أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها ـ لا يمكن لنا إلا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظاً، إنه صاحب عبقرية فذة في هذا الوصف، كما كان سيد الرسل وأعظمهم في صفة النبوة والرسالة، فلم يخض معركة من المعارك إلا في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحزم والشجاعة والتدبير، ولذلك لم يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش وتعيينه على المراكز الاستراتيجية، واحتلال أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة، واختيار أفضل خطة لإدارة دفة القتال، بل أثبت في كل ذلك أن له نوعاً آخر من القيادة غير ما عرفتها الدنيا في القواد. ولم يقع ما وقع في أُحد وحنين إلا من بعض الضعف في أفراد الجيش ـ في حنين ـ أو من جهة معصيتهم أوامره وتركهم التقيد والالتزام بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهه العسكرية. وقد تجلت عبقريته صلى الله عليه وسلم في هاتين الغزوتين عند هزيمة المسلمين، فقد ثبت مجابهاً للعدو، واستطاع بحكمته الفذة أن يخيبهم في أهدافهم ـ كما فعل في أحد ـ أو يغير مجري الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصاراً ـ كما في حنين ـ مع أن مثل هذا التطور الخطير، ومثل هذه الهزيمة الساحقة تأخذان بمشاعر القواد، وتتركان على أعصابهم أسوأ أثر، لا يبقي لهم بعد ذلك إلا هم النجاة بأنفسهم. هذه من ناحية القيادة العسكرية الخالصة، أما من نواح أخري، فإنه استطاع بهذه الغزوات فرض الأمن وبسط السلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيل لنشر الدعوة، كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطن النفاق، ويضمر نوازع الغدر والخيانة. وقد أنشأ طائفة كبيرة من القواد، الذين لاقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق والشام، ففاقوهم في تخطيط الحروب وإدارة دفة القتال، حتى استطاعوا إجلاءهم من أرضهم وديارهم وأموالهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكيهن. كما استطاع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكني والأرض والحرف والمشاغل للمسلمين، حتى تَفَصَّي من كثير من مشاكل اللاجئين الذين لم يكن لهم مال ولا دار، وهيأ السلاح والكُرَاع والعدة والنفقات، حصل على كل ذلك من غير أن يقوم بمثقال ذرة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان على عباد اللّه. وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوَتَر، وكبت الضعيف، وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والولائد والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض ـ في الجاهلية ـ إذ صارت هذه الحرب ـ في الإسلام ـ جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة ، وأغراض سامية، وغايات محمودة، يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان، إلى نظام العدالة والنَّصَف، من نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه، وصارت جهاداً في تخليص {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75]. وصارت جهاداً في تطهير أرض اللّه من الغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى بسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة. كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد بها على جنوده وقوادها، ولم يسمح لهم الخروج عنها بحال. روي سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي اللّه عز وجل، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا بسم اللّه، في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا، فلا تغلوا، ولاتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً...) الحديث. وكان يأمر بالتيسير ويقول: (يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا). وكان إذا جاء قوماً بِلَيْل لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، ونهي أشد النهي عن التحريق في النار، ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، ونهي عن النهب حتى قال: (إن النُّهْبَى ليست بأحل من الميتة)، ونهي عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولا يبقي سواه سبيل. وقال عند فتح مكة: (لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبراً، ولا تقتلن أسيراً)، وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل، وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال: (من قتل معاهداً لم يُرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً)، إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً. الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً كانت غزوة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فيقولون: يزعم أن اللّه أرسله، أوحي إليه، أوحي اللّه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللّه من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً... الحديث. وهذا الحديث يدل مدي أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نري الوفود تقصد المدينة تتري في هذين العامين ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نري في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام ـ مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم ـ يموج حول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد، تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء. الـوفـــود والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفداً، ولا يمكن لنا استقصاءها، وليس كبير فائدة في بسط تفاصيلها، وإنما نذكر منها إجمالاً ماله روعة أو أهمية في التاريخ، وليكن على ذكر من القارئ أن وفادة عامة القبائل وإن كانت بعد الفتح، ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضاً: 1 ـ وفد عبد القيس: كانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولي سنة خمس من الهجرة أو قبل ذلك. كان رجل منهم يقال له مُنْقِذُ بن حيان، يَرِدُ المدينة بالتجارة، فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم الإسلام أسلم، وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهر حرام في ثلاثة أو أربعة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن فيك خصلتين يحبهما اللّه: الحلم والأناة). والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود، وكان عددهم فيها أربعين رجلاً، وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه. 2 ـ وفد دَوْس: كانت وفادة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر ، وقد قدمنا حديث إسلام الطُّفَيْل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام، ويبطئون عليه حتى يئس منهم، ورجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً). ثم أسلم هؤلاء، فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتا من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، فلحق به. 3 ـ رسول فَرْوَة بن عمرو الجُذَامي: كان فروة قائداً عربياً من قواد الرومان، عاملاً لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله مَعَان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعد ما رأي من جلاد المسلمين وشجاعتهم، وصدقهم اللقاء في معركة مؤتة سنة 8 هـ، ولما أسلم بعث إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإسلامه، وأهدي له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه أخذوه فحبسوه، ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت على الردة، فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له: عفراء، وضربوا عنقه. 4 ـ وفد صُدَاء: جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الجِعْرَانة سنة 8 هـ ، وذلك أن رسول اللّّه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثاً من أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صُدَاء، وبينما ذلك البعث معسكر بصَدْرِ قَنَاة علم به زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: جئتك وافداً على مَنْ ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فرد الجيش من صدر قناة، وجاء الصدائي إلى قومه فرغبهم في القدوم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه خمسة عشر رجلاً منهم، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم، فدعوهم ففشا فيهم الإسلام، فوافي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع. 5 ـ قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى: كان من بيت الشعراء، ومن أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غزوة الطائف سنة 8هـ ، كتب إلى كعب بن زهير أخوه بُجَيْر بن زهير أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فَطِرْ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك، ثم جري بين الأخوين مراسلات ضاقت لأجلها الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة، ونزل على رجل من جُهَيْنَةَ، وصلي معه الصبح، فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول اللّه، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: (نعم). قال: أنا كعب بن زهير، فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال: (دعه عنك، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه). وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهورة التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُول ** مُتَيَّمٌ إثْرَهَا، لم يُفْدَ، مَكْبُول قال فيها ـ وهو يعتذر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويمدحه: نبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذن بأقوال الوشاة ولم ** أذنب، ولو كثرت فيَّ الأقاويل لقد أقوم مقاما ما لو يقوم به ** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد إلا أن يكون له ** من الرسول بإذن الله تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعه ** في كف ذي نقمات قيله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ** وقيل: إنك منسوب ومسئول من ضيغم بضراء الأرض مخدرة ** في بطن عثر غيل دونه غيل إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول ثم مدح المهاجرين من قريش؛ لأنهم لم يكن تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرض في أثناء مدحهم على الأنصار لاسئذان رجل منهم في ضرب عنقه، قال: يمشون مَشْي الجمال الزُّهْرِ يعصمهم ** ضَرْبٌ إذا عَرَّد السُّودُ التَّنَابِيل فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم، قال في تلك القصيدة: من سره كَرَمُ الحــياة فلا يَزَلْ ** في مِقْنَبٍ من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابراً عن كـابر ** إن الخـيار هـم بنـو الأخيار 6 ـ وفد عُذْرَة: قدم هذا الوفد في صفر سنة 9 هـ، وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان، قال متكلمهم حين سئلوا (من القوم؟): نحن بنو عُذْرَة، إخوة قُصَي لأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها. أسلموا وأقاموا أياماً ثم رجعوا. 7 ـ وفد بَلِي: قدم في ربيع الأول سنة 9 هـ، وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً، وقد سأل رئيسهم أبو الضُّبَيْب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة)، وسأل عن وقت الضيافة، فقال: (ثلاثة أيام)، وسأل عن ضالة الغنم، فقال: (هي لك أو لأخيك أو للذنب)، وسأل عن ضالة البعير. فقال: (مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه). 8 ـ وفد ثقيف: كانت وفادتهم في رمضان سنة 9 هـ، وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من غزوة الطائف في ذي القعدة سنة 8 هـ قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم عروة، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام ـ وهو يظن أنهم يطيعونه ؛ لأنه كان سيدا مطاعاً في قومه، وكان أحب إليهم من أبكارهم ـ فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب مَنْ حولهم من العرب ـ الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا ـ فأجمعوا أن يرسلوا رجلاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكلموا عَبْد يالِيل بن عمرو، وعرضوا عليه ذلك فأبي، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة. وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحدثهم سناً. فلما قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضية صلح بينه وبين ثقيف، يأذن لهم فيه بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم طاغيتهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة، وألا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً عن الاستسلام لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم أبداً. فقبل ذلك، وكتب لهم كتاباً، وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي ؛ لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض (وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا عن الردة، وثبتوا على الإسلام). ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن والكآبة، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سألهم الإسلام وترك الزنا والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم. فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقي اللّه في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل. وحينئذ أبدي الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف. وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجالاً لهدم اللات، أمر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة ابن شعبة، فأخذ الكُرْزِين وقال لأصحابه: واللّه لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد اللّه المغيرة، قتلته الرَّبَّةُ، فوثب المغيرة فقال: قبحكم اللّه، إنما هي لُكَاع حجارة ومَدَر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها، وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول اللّْه صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه. 9 ـ رسالة ملوك اليمن: وبعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم كتاب ملوك حِمْيَر، وهم الحارث بن عبد كُلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، وقَيْلُ ذي رُعَيْن وهَمْدَان ومُعَافِر، ورسولهم إليه صلى الله عليه وسلم مالك بن مرة الرَّهَاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بَيَّنَ فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطي فيه المعاهدين ذمة اللّه وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليهم من الجزية وبعث إليهم رجالاً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل، وجعله على الكورة العلياء من جهة عَدَن بين السَّكُون والسَّكَاسِك، وكان قاضياً وحاكماً في الحروب، وعاملاً على أخذ الصدقة والجزية، ويصلي بهم الصلوات الخمس، وبعث أبا موسي الأشعري رضي الله عنه على الكورة السفلي: زُبَيْد ومأرب وَزَمَع والساحل، وقال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا). وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. أما أبو موسي الأشعري رضي الله عنه فقدم عليه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. 10 ـ وفد همدان: قدموا سنة 9هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النَّمَطَ، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث على بن أبي طالب، وأمره أن يَقْفُلَ خالداً، فجاء على إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباً من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وكتب على ببشارة إسلامهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: (السلام على همدان، السلام على همدان). 11 ـ وفد بني فَزَارَة: قدم هذا الوفد سنة 9هـ بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلاً جاءوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقي، وقال: (اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحْي بلدك الميت، اللهم اسقنا غَيْثاً مُغِيثاً، مريئًا مَرِيعاً، طَبَقاً واسعاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللّهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولاهَدْم ولا غَرَق ولا مَحْق، اللّهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء). 12ـ وفد نجران: [نجران] بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، كان يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع ، وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون بالنصرانية. وكانت وفادة أهل نجران سنة 9هـ، وقوام الوفد ستون رجلاً منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران. أحدهمْ: العَاقِب، كانت إليه الإمارة والحكومة، واسمه عبد المسيح. والثاني: السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية، واسمه الأيْهَم أو شُرَحِْبيل. والثالث: الأسْقف، وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسي عليه السلام، فمكث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:59: 61]. ولما أصبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بقوله في عيسي ابن مريم في ضوء هذه الآية الكريمة، وتركهم ذلك اليوم ؛ ليفكروا في أمرهم، فأبوا أن يقروا بما قال في عيسي. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليهم من قوله في عيسي، وأبوا عن الإسلام دعاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خَمِيل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر: لا تفعل، فو اللّه لئن كان نبياً فَلاَعَنَنَا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، فلا يبقي على وجه الأرض منا شعرة ولا ظُفْر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فجاءوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حُلَّة: ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة اللّه وذمة رسوله. وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاً أميناً، فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح؛ ليقبض مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عليّا ؛ ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين. 13 ـ وفد بني حنيفة: كانت وفادتهم سنة 9 هـ، وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مُسَيْلِمة الكذاب ـ وهو مُسَيْلِمة بن ثُمَامَة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة ـ نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد النظر في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأي أن ذلك لا يجدي فيه نفعاً تفرس فيه الشر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنام أنه أتي بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحي إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا، فأوَّلَهُمَا كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الاستنكاف ـ وقد كان يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته ـ جاءه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شَمَّاس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر اللّه فيك، ولئن أدبرتَ ليعقرنك اللّه، واللّه إني لأراك الذي أرِيتُ فيه ما رأيتُ، وهذا ثابت يجيبك عني)، ثم انصرف. وأخيراً وقع ما تَفَرَّسَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليَمَامة بقي يفكر في أمره، حتى ادعي أنه أشرك في الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فادعي النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له: رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، وكتب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه: إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه: (إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين). وعن ابن مسعود: جاء ابن النَّوَّاحَة، وابن أُثَال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: (أتشهدان أني رسول اللّّه؟) فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول اللّه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت باللّه ورسوله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما). كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 21هـ، قتله وَحْشِي قاتل حمزة.وأما المتنبئ الثاني، وهو الأسود العَنْسِي الذي كان باليمن، فقتله فَيْرُوز، واحتز رأسه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي الله عنه. 14ـ وفد بني عامر بن صَعْصَعَة: كان فيهم عامر بن الطُّفَيْل عدو اللّه وأرْبَد بن قيس ـ أخو لَبِيد لأمه ـ وخالد بن جعفر، وجَبَّار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم، وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر مَعُونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبراً، ثم حبس اللّه يده فلم يقدر على سله، وعصم اللّه نبيه، ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعا أرسل اللّه على أربد وجمله صاعقة فأحرقته، وأما عامر فنزل على امرأة سَلُولِيَّةٍ، فأصيب بغُدَّةٍ في عنقه فمات وهو يقول: أغدة كغدة البعير، وموتا في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري: أن عامراً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُخَيِّرُكَ بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السَّهْلِ ولي أهل المَدَرَ، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان ! ايتوني بفرسي، فركب، فمات على فرسه. 15ـ وفد تُجِيب: قدم هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائهم، وكان الوفد ثلاثة عشر رجلاً، وكانوا يسألون عن القرآن والسنن يتعلمونها، وسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، ولم يطيلوا اللبث، ولما أجازهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثوا إليه غلاماً كانوا خلفوه في رحالهم، فجاء الغلام، وقال: واللّه ما أعْمَلَنِي من بلادي إلا أن تسأل اللّه عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فدعا له بذلك. فكان أقنع الناس، وثبت في الردة على الإسلام، وذكر قومه ووعظهم فثبتوا عليه، والتقي أهل الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخري في حجة الوداع سنة 01 هـ. 16ـ وفد طيِّـئ: قدم هذا الوفد وفيهم زَيْدُ الخَيْلِ ، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن زيد: (ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه)، وسماه زيد الخير. وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزْد وبني سعد هُذَيْم من قُضَاعَة، وبني عامر بن قَيْس، وبني أسد، وبَهْرَاء وخَوْلان ومُحَارِب وبني الحارث بن كعب وغَامِد وبني المُنْتَفِق، وسَلامان، وبني عَبْس، ومُزَيْنَة، ومُرَاد، وزُبَيْد، وكِنْدَة، وذي مُرَّة، وغَسَّان، وبني عِيش، ونَخْع ـ وهو آخر الوفود، توافـد فـي منتصف محـرم سنة 11هـ في مائتي رجـل ـ وكانت وفادة الأغلبية من هذه الوفود سنة 9 و 01 هـ، وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة 11 هـ. وتَتَابُع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام، وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن تري محيصاً عن الاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها، إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء بأسرهم ؛ لأنه كان وسطهم كثير من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعاً لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد عما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب. وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:97، 98] وأثنى على آخرين منهم فقال: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ التوبة:99]. أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين، فقد كان الإسلام فيهم قوياً، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين. | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:55 | |
| نجاح الدعوة وأثرها حجـة الــوداع آخر البعوث وقبل أن نتقدم خطوة أخري إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج اللّّه هامته بسيادة الأولين والآخرين. إنه صلى الله عليه وسلم قيل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} الآيات [المزمل:1، 2]. و{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1، 2] الآيات، فقام وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبري في هذه الأرض، عبء البشرية كلها وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى. حمل عبء الكفاح والجهاد في ميادين الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها. حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخري في ميدان آخر، بل معارك متلاحقة... مع أعداء دعوة اللّه المتألبين عليها، وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربـة، وفروعها في الفضاء، وتظلل مساحات أخرى... ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تُخُومِها الشمالية. وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولي ـ معركة الضمير ـ قد انتهت، فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يَنِي لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني، ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة اللّه هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف من العيش، والدنيا مقبلة عليه وفي جهد وكَدٍّ، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي نُصُب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه وترتيل لقرآنه، وتَبَتُّل إليه كما أمره أن يفعل. وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها، وصحت العقول العليلة حتى تركت الأصنام بل كسرت، أخذ الجو يرتج بأصوات التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام اللّه. وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة اللّه، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد اللّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب اللّه عنهم عُبِّيَّةَ الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب. وهكذا تحققت ـ بفضل هذه الدعوة ـ الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجري الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، تبدلت العقلية. إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية ـ قبل هذه الدعوة ـ ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسري فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة، لا حياة فيها ولا روح. فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية، خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة. وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها. | |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 11:59 | |
| حجـة الــوداع تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية للّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 01هـ قال له ـ فيما قال: (يا معاذ، إنك عسي ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري)، فبكي معاذا خشعاً لفراق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وشاء اللّه أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عاني في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدي الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة. أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل ، فتَرَجَّل وادَّهَنَ ولبس إزاره ورداءه وقَلَّد بُدْنَه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغ ذا الحُلَيْفَة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح. فلما أصبح قال لأصحابه: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة). وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذَرِيَرة وطيب فيه مِسْك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبَيِصُ الطيب يري في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلي الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مُصَلاَّه، وقَرَن بينهما، ثم خرج، فركب القَصْوَاءَ، فأهَلَّ أيضاً، ثم أهَلَّ لما استقلت به على البَيْدَاء. ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طُوَي، ثم دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 01هـ ـ وقد قضي في الطريق ثماني ليال، وهي المسافة الوسطي ـ فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، ولم يَحِلَّ ؛لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج. وأمر من لم يكن معه هَدْي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ـ وهو يوم التَّرْوِيَة ـ توجه إلى مني، فصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتي عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتي بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة: (أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً). (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هُذَيْل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله). (فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف). (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللّه). (أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم). (وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: (اللهم اشهد) ثلاث مرات. وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن خَلَف. وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، ولما نزلت بكي عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟) قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال: (صدقت). وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلي العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتي الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات ، وجعل حَبْل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القُرْص. وأردف أسامة، ودفع حتى أتي المُزْدَلِفَة، فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلي الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتي المَشْعَرَ الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلّله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسْفَر جِدّا. فَدَفَع ـ من المزدلفة إلى مني ـ قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتي بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطي التي تخرج على الجمرة الكبري، حتى أتي الجمرة التي عند الشجرة ـ وهي الجمرة الكبري نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمي بجمرة العَقَبَة وبالجمرة الأولي ـ فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصي الخَذْف، رمي من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطي علياً فنحر ما غَبَرَ ـ وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة ـ وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقِها. ثم ركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلي بمكة الظهر، فأتي على بني المطلب يَسْقُون على زمزم، فقال: (انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم)، فناولوه دلواً فشرب منه. وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضاً حين ارتفع الضحي، وهو على بغلة شَهْبَاء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد ، وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روي الشيخان عن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادي وشعبان). وقال: (أي شهر هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليس ذا الحجة؟) قلنا: بلي؟ قال: (أي بلد هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليست البلدة؟) قلنا: بلي. قال: (فأي يوم هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسمية بغير اسمه، قال: (أليس يوم النحر؟) قلنا: بلي. قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا). (وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض). (ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم، قال: (اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعي من سامع). وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة: (ألا لا يجني جَانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به). وأقام أيام التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها. وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن سَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: (أليس هذا أوسط أيام التشريق). وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر. وفي يوم النَّفْر الثاني ـ الثالث عشر من ذي الحجة ـ نفر النبي صلى الله عليه وسلم من مني، فنزل بخِيف بني كِنَانة من الأبْطَح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع، وأمر به الناس. ولما قضي مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله.
آخر البعوث كانت كبرياء دولة الرم قد جعلتها تأبي حق الحياة على من آمن بالله ورسوله، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل في الإسلام، كما فعلت بفَرْوَة بن عمرو الجُذَامِي، الذي كان والياً على مَعَان من قبل الروم. ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة 11هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلى، و إن هذا من أحب الناس إلى بعده). وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشة، حتى خرجوا ونزلوا الجُرْف، على فَرْسَخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزمتهم التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضي الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.
| |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 12:02 | |
| إلى الرفيق الأعلي طلائع التوديع ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله. إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: (إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً)، وقال وهو عند جمرة العقبة: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها). وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقــال: (السلام عليكـم يـا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي)، وبشرهم قائلاً: (إنا بكم للاحقون). بـدايـة المـرض وفي اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة11هـ ـ وكان يوم الاثنين ـ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع، وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سَوْرَتَها فوق العِصَابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلي النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 31، أو 41 يوماً. الأسبوع الأخير وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي طالب، عاصباً رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضي عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. قبل الوفاة بخمسة أيام ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه في مِخَضَبٍ ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: (حسبكم، حسبكم). وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، إلي)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وفي رواية: (قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد). وعرض نفسه للقصاص قائلاً: (من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه). ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، ثم أوصي بالأنصار قائلاً: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، وفي رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم). ثم قال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر). قبل أربعة أيام ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني). وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصي بإخراج اليهود والنصاري والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصلاة وما ملكت أيمانكم). والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً. وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصَلَّى الناس؟) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا لي ماء في المِخْضَب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الإثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها. وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات ؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس ، فأبي وقال: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). قبل ثلاثة أيام قال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول: (ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظـن بالله). قبل يوم أو يومين ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال: (أجلساني إلى جنبه)، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير. قبل يوم وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن ، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير. آخر يوم من الحياة روي أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجـر من يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر. ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه. فقالت: وا كرب أباه. فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم). ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم). وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ لا يبقين دينان بأرض العرب). وأوصى الناس فقال: (الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، كــرر ذلك مــراراً. الاحتضار وبدأ الاختصار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. دخل عبد الرحمن ـ بن أبي بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات...) الحديث. وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلي. اللهم، الرفيق الأعلي). كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلي. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحي من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام. تفاقم الأحزان على الصحابة وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. موقف عمر ووقف عمر بن الخطاب يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسي بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. ووالله، ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. موقف أبي بكر وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشي بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكي، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتَّهَا. ثم خرج أبو بكر، وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب: قال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تُقُلِّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض ووقع الخلاف في أمرالخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سَقِيفة بني ساعدة، وأخيرًا اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضي في ذلك بقية يوم الاثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان آخر الليل ـ ليلة الثلاثاء ـ مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه مغشي بثوب حِبَرَة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل: العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابني العباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها: الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة. أدرجوه فيها إدراجًا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يـقبض)، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً. ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان. ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوف الليل ـ وفي رواية: من آخر الليل ـ ليلة الأربعاء.
| |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 12:03 | |
| البيت النبوي 1- كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجه من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها، وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء ، فلم يعش منهم أحد ، وأما البنات فهن : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها, أبوالعاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه الواحدة بعد الأخرى، وأما فاطمة فتزوجها على بن أبي طالب بين بدر وأحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتاز عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاثة عشرة امرأه، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والأخرى أم المساكين زينب بنت خريمة، واثنتان لم يدخل بهما، وها هي أسماؤهن وشيء عنهن. 2- سودة بنت زمعة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بنحو شهر، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو، فمات عنها. توفيت بالمدينة في شوال سنة54هـ . 3ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبني بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق، فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . توفيت في 17رمضان سنة 57هـ أو 58 هـ ودفنت بالبقيع. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيمت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بين بدر وأحد ،فلما حلت تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة 3هـ توفيت في شعبان سنة 45هـ بالمدينة ،ولها ستون سنة،ودفنت بالبقيع. 5- زينب بنت خزيمة من بنى هلال بن عامر بن صعصة، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها أياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 4 هـ . ماتت بعد الزواج بنحو ثلاثة أشهرفي ربيع الآخر سنة 4هـ ، فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالبقيع. 6- أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة،وله منها أولاد، فمات عنها في جمادى الآخر سنة 4 هـ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال السنة نفسها، وكانت من افقه النساء وأعقلهن. توفيت سنة 59هـ، وقيل: 62هـ ودفنت بالبقيع، ولها 84 سنة. 7- زينب بنت جحش بن رباب من بنى أسد بن خزيمة، وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت زيد بن حارثة - الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم - فطلقها زيد، فلما انقضت العدة أنزل الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني - وسنأتي على ذكرها - تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقيل: سنة 4هـ، وكانت أعبد النساء وأعظمهن صدقة، توفيت سنة 20هـ ولها 53 سنة. وكانت أول أمهات المؤمنين وفاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى عليها عمر بن الخطاب، ودفنت بالبقيع. 8- جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق من خزاعة، كانت في سبي بنى المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6 هـ. وقيل: سنة 5هـ، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق، وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم النساء بركة على قومها. توفيت في ربيع الأول سنة 56هـ، وقيل: 55 هـ. ولها 65 سنة. 9- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، كانت تحت عبيد الله بن جحش، فولدت له حبيبة فكنيت بها، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر، وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7 هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة. فابتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من خيبر. توفيت سنة 42 هـ، أو 44هـ، أو 50هـ. 10- صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير من بنى إسرائيل، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله وعليه وسلم لنفسه، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ، وابتنى بها بسد الصهباء على بعد 12 ميلا من خيبر في طريقه إلى المدينة. توفيت سنة 50 هـ وقيل: 52هـ، وقيل 36 هـ ودفنت بالبقيع. 11- ميمونة بنت الحارث، أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة سنة 7 هـ، في عمرة القضاء، بعد أن حل منها على الصحيح. وابتنى بها بسرف على بعد 9 أميال من مكة، وقد توفيت بسرف سنة 61 هـ، وقيل: 63، وقيل: 38 هـ ودفنت هناك، ولا يزال موضع قبرها معروفا. فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان - خديجة وزينب أم المساكين - في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي. وأما الاثنتان اللتان لم يبن بهما، فواحدة من بنى كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونبة، وهناك خلافات لاحاجة إلى بسطها. وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما مارية القبطية، أهداها له المقوقس، فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفي صغيرا بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم، في 28 / أو 29 من شهر شوال سنة 10 هـ وفق 27 يناير سنة 632م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل: بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم، أعتقها فتزوجها. والقول الأول رجحه ابن القيم. وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. ومن نظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحدة شبه عجوز - خديجة ثم سودة - عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغته في نفسه قوة عارمة من الشبق، لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج. فاتجاه الرسول صلى الله عليه وصلى إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة - وكذلك تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان - يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلاة بالرجال الأربعة، الذي عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام. وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها، كانت أم سلمة من بنى مخزوم - حي أبي جهل وخالد بن الوليد - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعا راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفي ما لهدا المن من الأثر البالغ في النفوس. وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدينة، والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه. والمبادئ التي كانت أسسا لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادئ، مع أن مسيس الحاجة إلى تثفيفهن مباشرة لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى. وإذن فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات، العجائر منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء. وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من افعاله وأقواله. وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تاصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيرا من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عن المجتمع. وقدر الله أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذاته الشريفة، وكانت ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وفاتح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف، وإما بإخبار الله عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان يخاف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فلما فاتح زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرادته طلاق زينب أمره بأن يمسكها ولا يطلقها، وذلك لئلا تجئ له مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة. ولم يرض الله من رسوله صلى الله عليه وسلم،هذا التردد والخوف حتى عاتبه الله عليه بقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. وأخيرا طلقها زيد، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خيارا ولا مجالا، حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلاً كما هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وكم التقاليد المتأصلة الجافة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لابد له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحدا ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة. وقد أثر المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج مالم يوسع لغيره، لأغراضهة النبيلة الممتازة. هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج, مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرفقا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. وقالت عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سببا لتشريع الأحكام - فأنزل الله آية التخيير {أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً} [الأحزاب: 28، 29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر ـ مع كثرتهن ـ إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى تمام الآية الخامسة. وأخيرا أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان اوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى مايقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
| |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 12:03 | |
| البيت النبوي 1- كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجه من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها، وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء ، فلم يعش منهم أحد ، وأما البنات فهن : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها, أبوالعاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه الواحدة بعد الأخرى، وأما فاطمة فتزوجها على بن أبي طالب بين بدر وأحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتاز عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاثة عشرة امرأه، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والأخرى أم المساكين زينب بنت خريمة، واثنتان لم يدخل بهما، وها هي أسماؤهن وشيء عنهن. 2- سودة بنت زمعة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بنحو شهر، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو، فمات عنها. توفيت بالمدينة في شوال سنة54هـ . 3ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبني بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق، فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . توفيت في 17رمضان سنة 57هـ أو 58 هـ ودفنت بالبقيع. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيمت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بين بدر وأحد ،فلما حلت تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة 3هـ توفيت في شعبان سنة 45هـ بالمدينة ،ولها ستون سنة،ودفنت بالبقيع. 5- زينب بنت خزيمة من بنى هلال بن عامر بن صعصة، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها أياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 4 هـ . ماتت بعد الزواج بنحو ثلاثة أشهرفي ربيع الآخر سنة 4هـ ، فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالبقيع. 6- أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة،وله منها أولاد، فمات عنها في جمادى الآخر سنة 4 هـ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال السنة نفسها، وكانت من افقه النساء وأعقلهن. توفيت سنة 59هـ، وقيل: 62هـ ودفنت بالبقيع، ولها 84 سنة. 7- زينب بنت جحش بن رباب من بنى أسد بن خزيمة، وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت زيد بن حارثة - الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم - فطلقها زيد، فلما انقضت العدة أنزل الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني - وسنأتي على ذكرها - تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقيل: سنة 4هـ، وكانت أعبد النساء وأعظمهن صدقة، توفيت سنة 20هـ ولها 53 سنة. وكانت أول أمهات المؤمنين وفاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى عليها عمر بن الخطاب، ودفنت بالبقيع. 8- جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق من خزاعة، كانت في سبي بنى المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6 هـ. وقيل: سنة 5هـ، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق، وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم النساء بركة على قومها. توفيت في ربيع الأول سنة 56هـ، وقيل: 55 هـ. ولها 65 سنة. 9- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، كانت تحت عبيد الله بن جحش، فولدت له حبيبة فكنيت بها، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر، وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7 هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة. فابتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من خيبر. توفيت سنة 42 هـ، أو 44هـ، أو 50هـ. 10- صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير من بنى إسرائيل، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله وعليه وسلم لنفسه، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ، وابتنى بها بسد الصهباء على بعد 12 ميلا من خيبر في طريقه إلى المدينة. توفيت سنة 50 هـ وقيل: 52هـ، وقيل 36 هـ ودفنت بالبقيع. 11- ميمونة بنت الحارث، أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة سنة 7 هـ، في عمرة القضاء، بعد أن حل منها على الصحيح. وابتنى بها بسرف على بعد 9 أميال من مكة، وقد توفيت بسرف سنة 61 هـ، وقيل: 63، وقيل: 38 هـ ودفنت هناك، ولا يزال موضع قبرها معروفا. فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان - خديجة وزينب أم المساكين - في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي. وأما الاثنتان اللتان لم يبن بهما، فواحدة من بنى كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونبة، وهناك خلافات لاحاجة إلى بسطها. وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما مارية القبطية، أهداها له المقوقس، فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفي صغيرا بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم، في 28 / أو 29 من شهر شوال سنة 10 هـ وفق 27 يناير سنة 632م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل: بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم، أعتقها فتزوجها. والقول الأول رجحه ابن القيم. وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. ومن نظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحدة شبه عجوز - خديجة ثم سودة - عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغته في نفسه قوة عارمة من الشبق، لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج. فاتجاه الرسول صلى الله عليه وصلى إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة - وكذلك تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان - يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلاة بالرجال الأربعة، الذي عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام. وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها، كانت أم سلمة من بنى مخزوم - حي أبي جهل وخالد بن الوليد - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعا راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفي ما لهدا المن من الأثر البالغ في النفوس. وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدينة، والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه. والمبادئ التي كانت أسسا لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادئ، مع أن مسيس الحاجة إلى تثفيفهن مباشرة لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى. وإذن فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات، العجائر منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء. وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من افعاله وأقواله. وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تاصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيرا من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عن المجتمع. وقدر الله أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذاته الشريفة، وكانت ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وفاتح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف، وإما بإخبار الله عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان يخاف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فلما فاتح زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرادته طلاق زينب أمره بأن يمسكها ولا يطلقها، وذلك لئلا تجئ له مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة. ولم يرض الله من رسوله صلى الله عليه وسلم،هذا التردد والخوف حتى عاتبه الله عليه بقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. وأخيرا طلقها زيد، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خيارا ولا مجالا، حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلاً كما هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وكم التقاليد المتأصلة الجافة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لابد له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحدا ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة. وقد أثر المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج مالم يوسع لغيره، لأغراضهة النبيلة الممتازة. هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج, مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرفقا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. وقالت عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة. ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سببا لتشريع الأحكام - فأنزل الله آية التخيير {أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً} [الأحزاب: 28، 29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر ـ مع كثرتهن ـ إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى تمام الآية الخامسة. وأخيرا أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان اوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى مايقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
| |
|
| |
عسل الشفاء رتبة
الجنس : عدد المساهمات : 319 نقاط : 696 السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 09/03/2010 الموقع : الجزائر تمنراست المزاج : رووووووووووووووووعة
| موضوع: رد: كتاب الرحيق المختوم الإثنين مايو 17 2010, 12:05 | |
| الصفات والأخلاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقه وكمال خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظُفْر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يحبب عادة لم يرزق بمثلها بشر. وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة. جمال الخَلْق قالت أم مَعْبَدٍ الخزاعية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً: ظاهر الوَضَاءة، أبْلَجُ الوجه، حسن الخُلُق، لم تعبه ثُجْلَة، ولم تُزْرِ به صَعْلَة، وسِيم قَسِيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَهَل، وفي عنقه سَطَع، أحْوَر، أكْحَل، أزَجّ، أقْرَن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البَهَاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فَضْل، لا نَزْر ولا هَذَر، كأن منطقه خَرَزَات نظمن يَتَحدَّرن، رَبْعَة، لا تقحمه عين من قِصَر، ولا تشنؤه من طول، غُصْن بين غُصْنَيْن، فهو أنْظَر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدْرًا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، مَحْفُود، مَحْشُود، لا عَابِس ولا مُفَنَّد. وقال على بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكن بالطويل المُمَغَّطِ، ولا القصير المتردد، وكان رَبْعَة من القوم، ولم يكن بالجَعْد القَطِطِ، ولا بالسَّبْط، رَجِلاً، ولم يكن بالمُطَهَّم، ولا بالمُكَلْثَم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مُشْرَبًا، أدْعَج العينين، أهْدَب الأشْفَار، جَلِيل المُشَاش والكَتَدِ، دقيق المسْرُبَة، أجْرَد، شَثْنُ الكفين والقدمين، إذا مشي تَقَلّع كأنما يمشي في صَبَب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لَهْجَة، وأوفي الناس ذمة، وألينهم عَريكَة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم. وفي رواية عنه: أنه كان ضَخْم الرأس، ضخم الكَرَادِيس، طويل المَسْرُبَة، إذا مشي تَكَفَّأ تَكَفُّيًا كأنما يَنْحَطُّ من صَبَب. وقال جابر بن سَمُرة: كان ضَلِيع الفم، أشْكَل العينين، مَنْهُوس العقبين. وقال أبو الطفيل: كان أبيض، مَلِيح الوجه، مُقَصَّدًا. وقال أنس بن مالك: كان بِسْطَ الكفين. وقال: كان أزْهَر اللون، ليس بأبيض أمْهَقَ، ولا آدَم، قُبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وقال: إنما كان شيء ـ أي من الشيب ـ في صُدْغَيْه، وفـي رواية: وفي الرأس نَبْذٌ. وقال أبو جُحَيْفة: رأيت بياضاً تحت شفته السفلي، العَنْفَقَة. وقال عبد الله بن بُسْر: كان في عنفقته شعرات بيض. وقال البراء: كان مَرْبُوعًا، بَعِيدَ ما بين المَنْكِبَيْن، له شَعْر يبلغ شَحْمَة أذنيه، رأيته في حُلَّة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. وكان يُسْدِل شعره أولاً لحبه موافقة أهل الكتاب، ثم فَرَق رأسه بعد. قال البراء: كان أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خُلُقًا. وسئل: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي رواية: كان وجهه مستديراً. وقالت الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سَمُرَة: رأيته في ليلة إضْحِيَانٍ، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر ـ وعليه حلة حمراء ـ فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تُطْوَي له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك: كان إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة رضي الله عنها يَخْصِفُ نعلاً، وهي تغزل غزلاً، فجعلت تبرق أسارير وجهه، فلما رأته بُهِتَتْ وقالت: والله لو رآك أبو كَبِير الهُذَلي لعلم أنك أحق بشعره من غيرك: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر ينشد قول زهير في هَرِم بن سِنَان: لو كنت من شيء سوى البشر ** كنت المضيء لليلة البدر ثم يقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا غضب احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه حَبُّ الرمان. وقال جابر بن سَمُرَة: كان في ساقيه حُمُوشة، وكان لا يضحك إلا تَبَسُّماً. وكنت إذا نظرت إليه قلت: أكْحَل العينين، وليس بأكحل. وقال عمر بن الخطاب: وكان من أحسن الناس ثَغْراً. قال ابن عباس: كان أفْلَجَ الثنيتين، إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. وأما عُنُقه فكأنه جِيدُ دُمْيَةٍ في صفاء الفضة، وكان في أَشْفَاره عَطَف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزَجّ الحواجب في غير قرن بينهما، أقْنَي العِرْنِين، سَهْل الخَدَّيْن، من لُبَّتِه إلى سُرَّتِه شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشْعَر الذراعين والمنكبين، سَوَاءُ البطن والصدر، مَسِيح الصدر عريضه، طويل الزَّنْد، رَحْب الراحة، سَبْط القَصَب، خُمْصَان الأخْمَصَيْن، سَائِل الأطراف، إذا زَالَ زَالَ قَلْعاً، يخطو تَكَفِّياً ويمشي هَوْناً. وقال أنس: ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحاً قط أو عَرْفاً قط، وفي رواية: ما شممت عنبراً قط ولا مِسْكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو جُحَيْفة: أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. وقال جابر بن سمرة ـ وكان صبيا: مسح خَدِّي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جُونَةِ عَطَّار. وقال أنس: كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم: هو من أطيب الطيب. وقال جابر: لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عَرْفِه. أو قال: من ريح عرقه. وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند نَاغِض كتفه اليسري جُمْعاً، عليه خِيَلان كأمثال الثَّآلِيل. كمال النفس ومكارم الأخلاق كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً. وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر: ما سئل شيئاً قط فقال: لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول: (لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا). وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول. (ما بال أقوام يصنعون كذا). وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــلا يكلـم إلا حيـن يبتسـم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: على ذبحها، وقال آخر: على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وعلي جمع الحطب)، فقالوا: نحن نكفيك. فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه)، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن ـ لا يميز لنفسه مكاناً ـ إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم ـ لا تخشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه. قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ. وقال خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به. وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد. | |
|
| |
| كتاب الرحيق المختوم | |
|