المدير العـام شوقي نذير
الجنس : عدد المساهمات : 919 نقاط : 24925 السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 10/02/2010 الموقع : الجزائر تمنراست العمل/الترفيه : استاذ جامعي المزاج : ممتاز تعاليق :
| موضوع: نوازل فقه الهجرة، قراءة عقدية الأحد مايو 01 2011, 09:34 | |
| الحمد لله القائل في محكم تنزيله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"، والقائل جلَّ شأنه "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ".
والصلاة والسلام على النبي القائد، الذي بعثه سبحانه رحمة للعالمين، ليُخرج به الناس من ظلمات الجهالة إلى نور اليقين، فقال له تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًاَ"، ووعده أنَّ دينه الحقَّ سيظهر على الدين كلِّه، فقال: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونََ"
وبعد، فقد وفِّق المنظِّمون لندوة الفقه الإسلامي، بسلطنة عمان، تحت إمرة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية؛ إلى اختيار محورٍ وليد الواقع المعاصر، المتَّسم بالتعقيد، فكان موضوع الندوة: "الفقه الإسلامي في عالم متغير"، وضمن هذا العنوان الشموليِّ، يندرج محورُ "التجنيس والهجرة، بين التراث الإسلامي والواقع العالمي اليوم"؛ وتحت هذا المحور تأتي ورقتي هذه، داعيا الله سبحانه أن يوفِّقني لخير العلم وخير العمل، مردِّدا الدعاء المأثور: "اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا بمعرفة العلم، وحسِّن أخلاقنا بالحلم، وسهِّل لنا أبواب فضلك، وانشر علينا خزائن رحمتك، يا أرحم الراحمين".
ولقد قسَّمت ورقتي هذه إلى جملة من العناوين، محاولا من خلالها الربطَ بين أحكام التجنيس، كما وردت في الفقه الإسلامي، والجذورِ العقدية لتلكم الأحكام التفصيلية؛ ومركزا على ما يُعرف "بحكم الدار"؛ ذلك أنَّ الفقه لا ينفكُّ عن العقيدة، وأنَّ الشريعة لا تنفصل عن المقاصد الكبرى للدين الإسلامي الحنيف. والله المستعان.
أولا- الجذور العقدية لحكم التجنيس في التراث الإسلامي: إنَّ المتتبع لمصادر الفقه المعاصر، والتي بسطت القول في أحكام التجنيس، أو ما يتِّصل بها من أحكام الانتقال من أرض إلى أرض أخرى، ومن دولة إلى دولة أخرى، لَيتأكَّد أنَّ هذه الأحكام ضاربةٌ جذورُها في العديد من مسائل العقيدة، أهمها: - الولاية والبراءة. - الحب في الله والبغض في الله. - حكم الدار. - مسالك الدين، كما عرضت في التراث العقدي الإباضي.
وغير هذه المداخل العقدية كثير، غير أني في هذه الورقة المختصرة، لا يسعني أن أفصل البحث في جميع هذه الأبواب، مقتصرًا على "حكم الدار" وأثره على أحكام التجنيس، ومنبِّها –من جهة أخرى– إلى أنَّ حكم الدار يطال الكثير من أحكام الشريعة والفقه الإسلامي، مثل: الجهاد، والجزية، والاستئمان، والهدنة، والأنكحة، والميراث، الحدود، والمعاملات المالية وغيرها (وانظر-معمر: الإباضية بين الفرق، والأحمدي: اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية... وغيرهما).
ولقد برز مصطلح "دار الإسلام" و"دار الحرب" أو "دار الشرك"، في المنظومة الفقهية التراثية، لدى جميع المذاهب الإسلامية، "فقد نشأت هذه الفكرة بسبب حالة الحرب أو العداء بين المسلمين وغيرهم، بعد الهجرة النبوية، من مكة إلى المدينة، سواء من المشركين الوثنيين داخل الجزيرة العربية، أو خارجها مع الفرس والرومان" (الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته).
وينبغي التنبيه إلى أنَّه لا يوجد نص قطعيٌّ يضبط هذه الصفة كما هي عليه الآن في الفقه الإسلامي، لا في القرآن الكريم، ولا في السنَّة الشريفة؛ إلاَّ ما ورد عن النبي عليه السلام في قوله: "ألا إنني بريء من كل مسلم ترك مع مشرك في دار الحرب"، وواضح أنَّ توظيف مصطلح "دار الحرب" هنا يُقصد به الدولة التي بينها وبين المسلمين حرب قائمة؛ مثلما كان الحال بين دولة الإسلام وقريش، أو الفرس، أو الروم... وفي حديث آخر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الغريب الذي يكون في دار الشرك"، واصفا حال هذا الغريب، لا محرِّما هجرته إلى هنالك.
كما أنّ العلماء اليوم اختلفوا في اعتبار هذا التقسيم الثنائي، أي إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب"، كما اختلفوا في العمل به اليومَ، نظرا إلى واقع الخريطة السياسية العالمية المختلف عما كان عليه الحال أوان نزول الرسالة، ونظرا إلى المواثيق الدولية في الدولة الحديثة، وإلى المعاهدات الأممية، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية؛ فبرزت ثلاثة اختيارات هي: - من قال بضرورة الالتزام بالتقسيم، وهؤلاء يؤكِّدون أنـَّه لا يوجد اليوم إلاَّ داران هما: "دار الإسلام" وتشمل كلَّ البلاد الإسلامية، التي تجتمع تحت قبَّة منظَّمة المؤتمر الإسلامي، وهي حوالي 54 دولة. أمَّا غيرُها فيصدق عليه وصف أنها "دار حرب"، سواء أكانت دولا علمانية أم نصرانية أم يهودية.
- مَن قال بأنَّ هذا التقسيم لا يمكِّن وصفَ حال العالم اليوم تجاه الإسلام، ومن ثم اعتمدوا على إضافة جاءت عند الشافعية، وهي "دار العهد" أو "دار الأمن"، إضافة إلى "دار الحرب" و"دار الإسلام"، ومِن ثم يقسَّم العالم إلى ثلاثة: إمَّا "دار إسلام"، وإمَّا "دار حرب"، وإمَّا "دار عهد وأمن". ومن بين هؤلاء نذكر الشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ يوسف القرضاوي.
- أمَّا فريق ثالث فيعتبر أنَّ هذا التصنيف، ما دام غير قطعيٍّ، وليس مستمدًّا مباشرة من نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، فهو بذلك خاضع للاجتهاد، حسب ظروف العصر، وحال العالم، والمواثيق الدولية، وما يحقِّق المصلحة للمسلمين، ومن هؤلاء نذكر: مالك بن نبي، وفيصل المولوي، وجيفري لانغ، وطارق رمضان، ومحمد فتح الله كولن. ويلاحظ أنَّ هؤلاء بعضهم من أصول غربية، وبعضهم عاش في الغرب، والبعض الآخر هم من الجيل الثاني أو الثالث، أي أنَّ والديه هجرا إلى الغرب، واستقرا فيه، فولد بجنسية غربية، ونسب إلى بلده الجديد من أوَّل يوم.
فمالك ابن نبي وظَّف مصطلح: "دار الشهود" عوض "دار الحرب" للتعبير عن حال البلاد التي يحكمها كفَّار وأغلب سكانها كفَّار، وقوانينها ليست مستمدة من الشرع الإسلامي، مستنبطا ذلك من "دَور المسلم في العالم" وأنه شاهد على الناس، مصداقا لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا".
أمَّا فيصل المولوي فاستعمل في كتابه "الأصول الشرعية للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين" مصطلح "دار الدعوة"، قائلا: "لسنا في الغرب اليوم في دار الحرب وإنما نحن في دار عهد أو دار دعوة" ذلك أنَّ الرسول عليه السلام في مكَّة المكرمة قبل الهجرة لم يكن في "دار حرب" ولم يؤذَن له بالقتال، وإنما كان في "دار عهد" وكانت وظيفته "الدعوة" أي كان في "دار دعوة".
ولقد أورد جيفري لانغ –وهو عالم مسلمٌ أمريكيٌّ، له العديد من المؤلفات– سؤالين عميقين حول نظرية تقسيم العالم إلى "دار إسلام" و"دار حرب"، فقال: - هل هذه التركيبة السياسية-الشرعية هي جوهرية للإسلام؟ - وهل هي بحقٍّ مناسبة لهذا الزمان والعصر؟
ثم انتهى بعد تحليل مفصِّل لنصوص قرآنية وحديثية إلى الإقرار أنَّ "مفهوم دار الإسلام ودار الحرب ليس جوهريا في الإسلام، فمصادر النصوص الإسلامية لا تقود المسلمين في النهاية إلى هذه السياسة" (حتى الملائكة تسأل، ص197). كما أنَّ مراجعة هذه التركيبة لا يعني بأيِّ حال من الأحوال أنَّ الإسلام غيرُ صالح لكل زمان ومكان؛ فالذي لم يعدُ صالحا لهذا الزمان هو النظرية ذاتها، التي لا تملك صفة القطع، وهي وليدة اجتهاد راعى فيه الفقهاء زمنهم، وليس هو الإسلام في كلياته؛ فالمطلوب إذن هو الاجتهاد حسب ظروف هذا الزمان لإبداع نظرية صالحة للتطبيق، وفق المتغيرات، أو تكييف هذه النظرية لتخدم المقاصد الكبـرى للإسلام (نفسه؛ ص198 وما بعدها...).
وقد أورد جيفري لانغ حادثة معبِّرة تضع التركيبة في المحكِّ، وبخاصَّة ممن فهمها فهما مختزلا... والحادثة جاء فيها: "بعد اعتناقي الإسلام بنحو شهرين تقريبا، بدأ الطلبة المسلمون في الجامعة التي كنت أدرِّس فيها، بإلقاء محاضرات عن الإسلام مساءَ كلِّ جمعة في المسجد. وقد ألقى المحاضرة الثانية هشام، وهو طالب لامع في الطب... وكنت أحب وأحترم هشاما..." ومما قاله هشام في آخر محاضرته: "يجب أن لا ننسى، وهذا أمر هامٌّ جدًّا، أننا بوصفنا مسلمين، من واجبنا السعي والاشتراك إن أمكن ذلك، في قلب أيِّ حكومة غير إسلامية –أينما كانت في العالم– وذلك من أجل استبدال حكومة إسلامية بها".
علَّق جيفري على هشام، فقال: "قاطعتُه قائلا: يا هشام، هل يُفهم من حديثك أنَّ على المواطنين المسلمين في أمريكا السعيُ لتدمير الحكومة الأمريكية؟ هل تريد أن يُصبحوا طابورا خامسا في أمريكا، وأن يشكِّلوا مجموعة ثورية سرية تسعى لقلب الحكومة في أمريكا؟ هل تقصد من حديثك أنه عندما يعتنق أمريكي الإسلام فإنه يتوجب عليه أن يلتزم بالخيانة السياسية؟"... وجاء جواب هشام قاطعا، أكَّد فيه أنَّ هذا هو المطلوب وهو الصواب حقا (ص177).
لا شكَّ أنَّ مثل هذا الحكم المستنبط من نظرية "دار الإسلام" و"دار الحرب" باختزال مفرط، ودون مراعاة للمقاصد ودون نظر إلى المآلات، عند تطبيقه على مسلمين يعتنقون الإسلام في دول غربية، سيضعهم في محلِّ تهمة وريبة، ولا يسمح بالتالي بنشر دين الله في هذه البلاد، ولا بالاجتهاد في الدعوة إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والدعوةِ بالحال والأخلاق الحسنة، والمشاركة الإيجابية في نشر الخير ومحاربة الشرِّ.
هذا عن جيفري لانغ، أمَّا طارق رمضان فله كتاب بالفرنسية عنوانـُه "دار الشهادة، الغربُ باعتباره فضاء للشهادة". وهو في هذا الكتاب، ومن خلال صياغته لهذا المصطلح، يحيل إلى مبدأين أساسيين في العقيدة الإسلامية، هما: 1- كلمة التوحيد، أي الشهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- وجوب تبليغ دين الله تعالى إلى العالمين، الذي يستحيل دون هجرة ومساكنة وحضور في جميع بلاد العالم اليومَ، حتى يمكن إقامة الحجة على الناس كافَّة... ولا يكون ذلك إلاِّ بالهجرة، وتقبُّل العيش في بلاد الكفر، والنظر إلى جغرافية الإسلام نظرة كلية كونية، لا محلية ضيقة.
ولقد كان محمد فتح الله كولن صاحبَ مشروع كبير، تمكَّن من خلاله من تأسيس مشاريع حضارية إسلامية في أكثر من مائة دولة عبر العالم، وله في أمريكا فقط أكثر من سبعمائة مدرسة خاصة، وأكثر من مائة وثلاثين مركزا دعويا... كما أنَّ أتباعه اليوم يتحكَّمون في العديد من الدول الجديدة المستقلة، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي... ولعل السر في ذلك هو إحياؤه لمفهوم "الهجرة"، وإفتاؤه في حالات كثيرة بوجوب التجنيس بغرض نشر دين الله تعالى؛ بناء على مخطط دعويٍّ محكم؛ وتحريمه البقاء خارج دائرة الفعالية والتأثير على الناس، ذلك أنَّ هذه السلبية معطِّلة لواجب شرعيٍّة أكيدة هي: الجهاد، والدعوة، بمدلولاتها الواسعة، كما أنه أفتى بجواز التجنيس للملايين من الأتراك المقيمين في ألمانيا، ودعاهم إلى إنشاء مجتمع مسلم متماسك، والدعوة إلى الله من مقام الفعالية، لا البقاء خارج دائرة التأثير، كما هو حال المسلمين في بعض البلاد الأوروبية (وانظر- باباعمي: البراديم كولن؛ يلمز وإسبيزوتو: السلم في حركة كولن).
يقول فتح الله كولن: "ونحن باعتبارنا أمَّة، مكلَّفون بإحراز الموقع الرفيع لتبليغ دين الله للعالمين.. وهدفنا هو هذا لا غير.. لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". هذا يعني: إنا جعلناكم وسطاً لما يحدث بين الدول، وعنصر توازن بين الأمم وشاهداً للاستقامة" (موقع كولن). من جميع هذه الاعتبارات صاغ كولن مصطلحا جديدا هو "دار الخدمة"، فكلُّ أرض الله تعالى، سواء أكانت تابعة للمسلمين أو للكفار هي "دار للخدمة"، ولنشر دين الله، ولزرع الأخلاق، ولنفع العباد؛ فالدعوة بالمقام والحال أبلغ من الدعوة بالمقال وباللسان.
يقول فتح الله: "إن كلَّ فرد هاجر من أجل مبدأ سـامٍ يشعر في كلِّ لحظة من لحظات حياته بهاجس سببِ هجرته، ويحسُّ بحجم مسؤولية هذه الهجرة، فينظم حياته كلَّها على ضوئها".
وباعتبار بلاد الغرب "دار شهادة" يتحول المسلم المغترب، وبخاصة من الجيل الثاني والثالث، وكذا الملايين من المسلمين الذين تجنسوا في بلاد مثل كندا، وأمريكا، وفرنسا... لضرورات العيش، أو طلبا للعلم، أو هروبا من ظلم لحق بهم... يتحول كلُّ هؤلاء من الموقف السلبي، إلى الوجود الإيجابي، فيسهمون في الانتخابات، وفي الحركية الاجتماعية والاقتصادية... ويكونون مواطنين من الدرجة الأولى، لا مواطنين من الدرجة الثانية...
بعد هذا العرض المقتضب للمذاهب الثلاثة في نظرية "دار الإسلام" و"دار الحرب"، يجدر بنا أن نؤكّد أنَّ حكم التجنيس ينتظم معها، بين محرِّم مطلقا، ومجيز مطلقا، ومجيز مع شروط، وفي ظروف معيَّنة.
ثانيا- التجنيس وحكم الدار في الفقه الإباضي، بعامَّة: تنبه الشيخ وهبة الزحيلي إلى أنَّ "الدار لدى الإباضية تظل دار عدل، ولو غلب عليها أهل الضلال، مشركين أو منافقين، ما دام يمكن لأهل العدل إظهار دينهم فيها." وهو في هذا يستند إلى قطب الأيمة الشيخ اطفيش في شرح النيل. من هنا كان مناط الحكم هو "العدل" و"الجور"، فمتى كان العدل في دار جاز التجنس بجنسيتها، ومتى كان الجور هو الغالب عليها لم يجُز، بل قد تجبُ الهجرة منها، حتى وإن كانت في صفتها العامة دولة إسلامية، ما دام المقصد هو الحفاظ على الدين، وممارسة الشعائر والواجبات؛ يقول تعالى: "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا".
وقد جاء في معجم مصطلحات الإباضية، من تأليفنا مع ثلة من الباحثين، حوصلة لحكم الدار عند الإباضية، مما ورد فيه: يقصد بالدار الوطن والبلد ومن يسكُنه، ومن يحكمه ويرعاه، أو يعمل تحت الحاكم فيه. وتنقسم الديار إلى قسمين أساسيَّين: 1- "دار الإسلام"، وتسمَّى "دار التوحيد"، يكون الحاكم فيها مسلما، ويسكنها المسلمون، وتظهر فيها أحكام الشريعة ورسومها، كالمساجد ومقابر المسلمين، وسك العملات؛ وهي نوعان: أ- دار "العدل والحقِّ"، وتسمَّى "دار دعوة الحقِّ" أيضا، يسودها العدل والالتزام بالكتاب والسنَّة، ومحاربة البدع، وإن ظهر فيها من ينتهك حرمات الله، لكن لا يحرَّم فيها ما أحلَّ الله، ولا يُحَلُّ ما حُرِّم بدين. يُتَولَّى حاكمُها ورعيَّـتُه، إلاَّ من عُلم منه مخالفة الحقِّ. ب- "دار الجور والظلم": يغلب عليها الجبابرة والجورة. وفيها الموافقون للحقِّ، يُتبرَّأ من حاكمها، وممَّن دان بطاعته، إلاَّ من عُلم منه موافقة المسلمين، ويجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطاعة فيما يوافق الحقَّ، ويجوز فيها الخروج على الحاكم إذا توفَّرت شروط ذلك. 2- "دار الشرك"، وتسمَّى أيضا: "دار الكفر"، يغلب عليها سلطان المشركين، ويسكنونها، ويسكن معهم المسلمون ولو كانوا يُظهرون شعائرهم، وحكمها: ألاَّ ينتقل للتوطين فيها، ويجوز لمن دخل عليه الشرك فيها البقاء ما دام يتوصَّل إلى إظهار شعائر الإسلام، وتحرم طاعة حاكمه، ويجب السعي إلى تغييره. (المعجم مصطلح "حكم الدار" ص390. وانظر- أبو العباس: تبيين أفعال العباد. الكندي: بيان الشرع. أبو عمار: شرح الجهالات. الجيطالي: قواعد الإسلام. الثميني: النور. البوسعيدي: لباب الآثار. السالمي: بذل المجهود. معمر: الإباضيَّة بين الفرق. جهلان: الفكر السياسي).
ويلاحظ أنَّ تقييد الدار بالعدل والجور ارتبط بـ"دار الإسلام" فقط، رغم أنَّ دار الكفر اليوم قد يكون فيها حدٌّ أدنى من العدل، ولا يضايَق فيها المسلمون، ولا يلزُّون على المعصية، وتحترم شعائرهم؛ فلا يمكن أن نسوِّي في الحكم بين الهجرة إلى كندا، والهجرة إلى إسرائيل مثلا؛ فالأولى ظاهرا غير محاربة، أمَّا الثانية فهي محاربة، ومتسلِّطة على مقدَّسات المسلمين؛ كما لا يمكن أن نسوي بين حكم التجنس بالجنسية الفرنسية أوان استعمارها للجزائر، والتجنيس بجنسيتها اليومَ، وفيها الملايين من المسلمين، من مختلف الأصول، وفيها مَن ولد من أبوين مجنسين، ولا يمكنه العودة إلى بلده، ولعل هذا معنى قولهم: "ويجوز لمن دخل عليه الشرك فيها البقاء ما دام يتوصَّل إلى إظهار شعائر الإسلام".
ثم إنَّ هذا الاعتبار للعدل والجور يسهم في الخروج من الثنائية المختزلة، ويمكِّن من تكييف حكم الدار مع واقع العالم المعاصر. وهو ما يفسِّر فتوى سماحة الشيخ أحمد حمد الخليلي، التي اتخذت موقفا وسطا، معتبرة لجملة من الشروط. فقد نقل عنه جـواز التجـنس بجنسية الدولة الكافرة عند الضرورة؛ كما لو كان مضطهداً في دينه في بلده المسلم، ولم يقبله أحد سوى الحكومة الكافرة. وهو رأي بعض أعضاء مجمع الفقه الإسلامي. كما أنَّ الشيخ وضع ثلاثة شروط للجواز، وهي: 1 - انسداد أبواب العالم الإسلامي في وجه لجوئه إليهم. 2 - أن يضمر النية على العودة متى تيسَّر ذلك. 3 - أن يختار البلد التي يمارس فيها دينه بحرية. ولا ريب أنَّ البلاد التي تسمح بالتجنيس، دون اشتراط التخلي عن الجنسية الأصلية، تكون أولى من التي تمنع التجنس بجنسيتين؛ ويبقى العدل، وحرية ممارسة الشعائر، والأمن من خطر ردَّة الذرية عن دين الله، محدِّدات أساسية في الحكم على التجنيس.
ثالثا- التجنيس عند الشيخ أبي اليقظان إبراهيم: في العشرينات من القرن الماضي، صاغ "فولييت" مشروعا خبيثا، عُرف باسمه، أي "مشروع فبولييت"؛ وكان الهدف منه تشجيع الجزائريين على التجنس بالجنسية الفرنسية، مقابل حصولهم على الحقوق السياسية التي يتمتع بها باقي الفرنسيين. وفي مقابل هذا الخطر الداهم انبرى أبو اليقظان بقلمه الصلب لتوعية بني وطنه بخطورة هذه المؤامرة، رابطا إياها بحكم الشريعة الإسلامية... ولقد تجلى حكمه من خلال مقال عنيف صدر له بعنوان "رأينا في التجنيس."
ولقد اعتبر المتجنِّس وفقا لأحكام الفقه الإسلامي مرتدًّا عن دينه، يجري عليه ما يجري على المفارق لدين الجماعة، وقال: "إنَّ الكلام عن مسألة التجنيس، وبيان فسادها وخطورتها من الوجهة الدينية والوطنية، كالكلام على ظلام الليل، ومرارة الحنظل، وسم العقرب وفرقعة الدينامت".
من هنا كانت مواقف أبي اليقظان من التجنيس، صريحة لا مواربة فيها، وهي أن المتجنّس مرتد عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "وأنَّ التجنيس في لغة مفكرنا مرادف لكلمة تنجيس، ولله دره في هذا الاقتباس حين يصف الحكام المحليين المباركين للتجنيس بـ "القواد" مستخدما التعبير الجزائري الشعبي بأبشع مدلولاتها وأدقها (وانظر- قسوم، محاضرة الوطنية في فكر أبي اليقظان). واضح أنَّ هذه الحالة، وهي كون فرنسا تسعى إلى مسخ أمَّة إسلامية بكاملها، تستدعي هذا الحكم بالحرمة القطعية، واعتبار من استجاب لمخططاتها مرتدا عن دين الله؛ ولو أنّ الفقهاء أفتوا بجواز التجنيس يومها، لكانت الجزائر اليوم فرنسية، عقيدة ولسانا، ولما أمكن أن تحلم يوما ما بالاستقلال والسيادة، والعودة إلى صف البلاد الإسلامية والعربية. ومما يسند هذه الفتوى قوله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم"، فهؤلاء قاتلونا في ديننا، وأخرجونا من ديارنا، وظاهروا على إخراجنــا.
رابعا- شبهة والرد عليها: تناقلت مصادر التراث الإسلامي، وبخاصَّة كتب المقالات، شبهةً مفادها أنَّ الإباضية يعتبرون دار مخالفيهم في حكم "دار الكفر"، وذلك لربطهم بين كلمتي "المخالفين" و"معسكر السلطان"؛ كأنهما في تصورهم متلازمتين؛ والصواب غير ذلك. يقول الشيخ علي يحي معمر: "دار الإسلام هي كلُّ وطن تسكنه أمَّة مسلمة، وتتولَّى الحكم فيه دولة مسلمة، تنتسب إلى الإسلام وتتسمَّى به، مهما كان مذهب السكان، أو مذهب الحاكم". فلا اعتبار للمذهب إذن في تقسيم الدار إلى دار إسلام، ودار كفر؛ خلافا لما يروَّج في القديم، وإلى اليوم، في الكثير من وسائل الإعلام من أنَّ الإباضية تكفِّر المخالفين (وانظر- صورة الإباضية في الأنترنت، باباعمي).
ما أروع قول الشيخ علي يحي معمر، معتبرا لحقوق المواطنة، متعمقا في المقاصد الكبرى لديننا الحنيف: "يرى الإباضية أنَّ على المسلم حقا للوطن الذي يعيش فيه، يوجب عليه الدفاع عنه من أيِّ مهاجم أو عدوان، ما لم يكن هو في حكم المنحرف والمهاجم دولة عادلة تريد إقامة حكم الله، ويطالبه بالدخول تحت رعايتها؛ والخضوع لنظامها"؛ فالغربي الذي يعتنق الإسلام، مثلا، يجب عليه أن يوفي بحقوق المواطنة، ومن ذلك أن يتجند في الدفاع عن وطنه، في حال تم البغي عليه، لكن لا يجوز له أن يتجند إذا كان بلده في مقام الغازي والظالم، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن باب أولى، يجب على المسلم، مهما كان مذهبه، أن يوفي بحقوق المواطنة، ويعمل على نصرة بلده، وإن قصر في ذلك فهو آثم.
نتائج الورقة: *إنَّ الجنسية مصطلح سياسي جديد، ظهر مع تشكل الدولة الحديثة، أواخر القرن الثامن عشر. *المصطلح غير وارد في المصادر الفقهية المتقدمة بلفظه، لكن بدلالته ومعناه يرد كثيرا في التراث الفقهي الإسلامي. *عند المقارنة بين أحكام التجنيس قانونيا في الغرب، وأحكامها قانونيا وفقهيا في التراث الإسلامي، يجب أن نسجل ملاحظة جوهرية هي أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، فهو ينظم العلاقة بالله والآخرين (أفرادا، وعائلات، ودولا...)، وكذا بالكون؛ فالفرق ساشع بين الرؤيتين الكونيتين: الرؤية الكونية التوحيدية، والرؤية الكونية المادية. *إن حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، معقَّد، فهو من حيث حكمه يأخذ حكماً خاصاً، ومن حيث إنَّ هناك ملابسات عديدة يدعو ذلك إلى التوقف. ومن أهم تلك الملابسات الظروفُ المختلفة التي يعيشها الساكنون في البلاد الخاضعة لحكم غير إسلامي، وهي ظروف ليست في مستوى واحد. *أن حكم التجنيس ضارب جذوره في تربة العقيدة، من خلال العديد من أبوابها ومداخلها، ومن أبرز تلك المداخل: ما يعرف بحكم الدار. *أنَّ تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، هو وليد ظروف نشأة الدول الإسلامية الأولى، في علاقتها بالفرس والروم ومشركي العرب وغيرهم. *أنَّ ثمة اجتهادات كثيرة في مراعاة ظروف التقسيم، منها ما ورد عن الشافعي في إضافته لدار الأمان أو دار العهد، كما أنَّ ثمة من أضاف تفريعا لدار الحرب وهو: دار العدل، ودار الجور، ومن أبرز هؤلاء الإباضية في مصادرهم الفقهية. *اقترح بعض الباحثين المعاصرين مصطلح "دار العهد" أو "دار الشهود" أو "دار الشهادة" أو "دار الخدمة" عوضا عن "دار الحرب"، محاولة منهم لإيجاد مخرج للمسلمين المقيمين في البلاد الغربية منذ عقود، ممن يعرفون بالجيل الثاني والثالث، أو للغربيين المعتنقين للإسلام. *أجد أنَّ الظاهرة مركَّبة، يشترك فيها النص بكل تبعاته، والواقع بكل حيثياته؛ وأي محاولة لاختزال الظاهرة، وإصدار الحكم مباشرة، قد تكون لها نتائج وخيمة، لا تخدم الإسلام، ولا الدعوة الإسلامية. *لا بدَّ أن نتحرَّر من الثنائية المتقابلة: إما دار إسلام أو دار حرب، لنضيف تفريعات جديدة، تعامل معها بعض الفقهاء، أمثال سماحة الشيخ الخليلي باشتراطه شروطا للتجنيس؛ ومن هذه التفريعات: دار شرك وعهد، دار شرك مع حرب، دار شرك مع عدل، دار إسلام مع جور... الخ. *لا اعتبار في التجنيس بالمذهب، وإنما الاعتبار بالدين وحده، والشبهة المنقولة عن الإباضية في ذلك واهية لا أساس لها. *المرجو اليوم هو توسيع النظرة إلى جغرافية العالم الإسلامي، والعمل بتخطيط حتى ينتشر دين الله في جميع أرض الله، بالحكمة، والحسنى، والدعوة بالحال؛ وقد يكون اتخاذ جنسية بلد ما ضمن هذا المخطط من أوكد الواجبات. *لا يطلب ممن ولد في بلد كافر، أو هو من أصل ذلك البلد، أن يغير جنسيته، أو يسعى إلى الانقلاب على بلده، بل الواجب عليه أن يكون إيجابيا فعالا حركيا، حتى يقنع الناس بسماحة دين الله، وبقدرته على استيعاب جميع الأجناس والثقافات والجغرافيات. *مناط الحكم في التجنيس، كما ورد عند الإباضية، هو العدل والجور؛ فمتى كان العدل، وأمن المرء دينه، كان جواز اتخاذ الجنسية، ومتى كان الجور، ولم يأمن المرء دينه، فالحكم هو الحرمة. وأخيرا، تبقى هذه الورقة مجرد فتح للشهية، ومدخل أولي للموضوع، يستتبع أعمالا أخرى، ومحاولات أخرى، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
ملحق رسالة حول حكم الهجرة، من تركيا
بسم الله الرحمن الرحيم أخانا الفاضل الحبيب، فضيلة الدكتور محمد بابا عمي، بدايةً أعتذر منكم بسبب تأخري في الجواب على رسالتكم عبر البريد الألكتروني، والبارحة أخبرني الأخ شكري بأنه أرسل الكتاب إلى المطبعة، علما بأن الطباعة في تركيا/إزمير قد تم حسب ما أخبرني الإخوة... وبالنسبة لسؤالكم حول "التجنس" بجنسية أجنبية/أو مزوجة فقد حاورت الأستاذ جمال حول الموضوع فأخبرني بأنه في حدودي معلوماته لم يطلع على نص مكتوب من الأستاذ حول هذا الأمر، إلا أنه سمعنه مرة في جلسة معه ما يلي: "حينما سافرت إلى ألمانيا زرت الإخوة الأتراك الذين ذهبوا إلى تلك البلاد لغرض العمل، ولاحظت منهم أنهم يعزمون العودة إلى تركيا بعد التقاعد، ولكني نصحتهم بأنهم بإمكانهم أن "يصححوا النية" بمعنى أنهم وإن وفدوا إلى تلك البلاد لأغراض مادية بحتة إلا أنهم بإمكانهم أن يغيروا نيتهم إلى المكوث هناك بغرض "الهجرة" للدعوة إلى الله وتمثيل الإسلام وتقديم القدوة الصالحة وفي هذا الإطار عليهم أن ينسجموا مع أهل البلد الذي يعيشون فيه ويتعلموا لغتهم ويرسلوا أبناءهم إلى مدارسهم وجامعاتهم حتى لا يظل الجيل الجديد عمالا مثل آبائهم بل يترقوا في المستوي الاجتماعي، وبذلك تكون لهم كلمة مسموعة لدى أهل البلد المضيف.. وكذلك إنهم إذا حصلوا على "الجنسية المزدوجة" فعسى أن تساعدهم تلك على سهولة التحرك وتأسيس مؤسساتهم بأسمائهم وبحرِّية.. "إن الأرض لله يورثها من يشاء".. وكنا نسمعه كثيرا ما يردد أنه يروى أن عدد الصحابة الذين حضروا حجة الوداع ينوف عدد على مائة ألف صحابي ولكن كم منهم دفن في البقيع، لا، بل إنهم انتشروا في مختلف بقاع الأرض ونشروا الحق بشتى الوسائل المتاحة.... غاية ما فهمت منه أن الأمر يتعلق بالنية والقصد، وأنه إذا كان وجود مجموعة من المسلمين في بلاد غير المسلمين يصب في مصلحة الإسلام وتمثل الإسلام تمثلا صحيحا ومجديا فهذا أمر مرغوب فيه.." هذا وأسأل المولى العزير أن يبارك في جهودكم وخدماتكم ويرزقنا وإياكم الإخلاص والسداد في القول والعمل.. ويختم أعمالنا وأعمالكم بالخير...آمين.. أخوكم: أجير | |
|