39-لمحة في قوله تعالى:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا...طه132
لا إشكال في المعنى من جهة الفقه فالأمر بالاصطبار على الصلاة أمر عام يشمل الرسول وأمته..
لكن الإشكال يأتي من جهة البلاغة، فقد يقال: إن المقام يقتضي توجيه الأمر للمؤمنين مباشرة ..ذلك لأن خطاب الرسول بأمر الاصطبار يفهم منه أنه قد يتضجر من الصلاة، أو قد لا ينشط لها كما ينبغي، أو قد تشق عليه المداومة عليها..وما من شيء من كل هذا صحيح، فإنه قد قال عن نفسه :
".. وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"
وواضح أن من كانت "قرة عينه في الصلاة" لا يكون في المقام الذي يستدعي أن يخاطب بأمر الصبر عليها ،فضلا عن الاصطبار عنها.
بيد أن العدول عن عموم الخطاب إلى خصوصه يحقق دلالات إضافية:
أولا:الدلالة الرئيسة ،أعني التكليف العام بالاصطبار، وهي منتزعة من الخطاب الخاص بمقتضى قواعد علم الاصول.
ثانيا:الدلالة الحافة من التخفيف النفسي ،فالمرء مجبول على التعزي بغيره، فإذا كانت المشقة التي يعاني منها مشتركة مع أقرانه ونظرائه خفت عنه وهانت في شعوره..وسيكون التخفيف النفسي أكبر عندما يُعلم أن العظماء أنفسهم يجدون تلك المشقة...
ثالثا: التحفيز المتفرع عن الدلالة السايقة..فعلم الإنسان أن من هم أقوى منه قد تشق عليه الصلاة دافع له إلى أن يأخذ عدته ويستجمع كل قواه لأنه أضعف ...
كما لو علم أن رجلا أقوى منه أصابه البرد في سفر..فيعتبر به فيأخذ العدة قبل خروجه من ثياب ودواء ..ولولا هذا الاعتبار لوقع له استهانة تورده المهلكة...
40-لمحة في قوله تعالى:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴿60﴾ -طه.
-1-
الإيجاز من أعظم وجوه الإعجاز البياني،والمعاجزة به قريية المأخذ، والانقطاع معها مشهود..
فمن أظهر كمية من المعاني ،في عدد معين من الألفاظ، فله أن يتحدى الخصم بالنزول إلى عدد أقل من الألفاظ مع بقاء المعاني .أما الزيادة في اللفظ فمقدور لأي واحد ...
وإعجاز القرآن من هذه الجهة مشهود لا يمارى فيه.فلا يستطيع بليغ أن يأتي بأخصر من لفظ القرآن أبدا،وإن فعل كان على النقص في المعنى، وهذا ليس من البلاغة في شيء...وكذلك لا يستطيع أن يساوي القرآن أبدا لأن البيان المعجز يستعمل الكلمة الوحيدة- الموجودة في اللغة- التي تلبي حاجات المعنى ،قال ابن عطية-رحمه الله-:
" كتابُ اللهِ لو نزعت منه لفظةٌ ، ثُمَّ أُديرَ لسان العربِ فِي أن يوجد أحسن منها لم يوجد "
بل لا يوجد مثلها بناء على منع الترادف في اللغة وهو-في نظري- القول الراجح.وليس هذا محل تفصيله لكن حسبنا أن نستدل بأن الكلمة تحمل نوعين من الدلالة:
-الدلالة الحرفية المعجمية.
-الدلالات الإيحائية .
فلو قدر لكلمتين الاتفاق في الأولى فمن المستبعد جدا أن يشتركا في الثانية بسبب اختلاف الجرس، وما يعلق بالمعنى من ظلال عبر التاريخ الاستعمالي للكلمة ،ويمكن تشبيه الكلمة هنا بالنحلة فهي في تنقلها بين الزهور يعلق بجسمها شيء بعد شيء.....فالنحلتان المتشابهتان عند الغدوة تختلفان عند الروحة ،وكذلك الكلمتان المترادفتان ظاهرا.
مثلا كلمة" رزق" لا مرادف لها بل أنا زعيم باستحالة ترجمة هذه الكلمة إلى أي لغة من لغات الناس ،لأن الكلمة العربية لها من الظلال الروحية ومن المعاني الحدسية ما لا يمكن أن يوجد في ثقافة أخرى.
فعل "تولى" مثلا –في الآية التي نتدبرها-لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية.....
فهو دال على الحركة في اتجاه معين ،مع الدلالة على موقف فكري ونفسي...ف"انصرف" –مثلا- إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني.
-2-
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
الظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للافعال الصادرة عنه:
التولي، والجمع، والمجيء.
لكن التأمل الدقيق للفعلين: "تولى"، و "أتى".يكشف أن الآية حملت إخبارا عن موسى -- أيضا.فنقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة....وهذا من إيجاز القرآن المعجز.
تولى: فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء....ويدل أيضا على وجود شخص (أو شيء) في الخلف .... هو المرجع الذي يحدد فعل "تولى".
أتى:فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء ...لكنها حركة مقابلة للتولي:فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف...
التولي انفصال وذهاب بعيدا عن المتولى عنه...والإتيان عكسه .
كل هذا واضح.......ولكن ماذا قالت الآية عن موسى ؟
الآية تشعرنا أن موسى لم يغادر مكانه .
(هذا الشعور عندي ذاتي قريب من الحدس قد لا نستطيع التعبير عنه أو إثباته بطريق قوي وقد لا يوافقنا فيه غيرنا....ولكننا نتدبر كما أمرنا....والعلم عند الله تعالى)
ومصدر هذا الشعور أمران:
-السرد السريع لما قام به فرعون :تولى وجمع ثم أتى.فكأنه لم يتخلل بين الفعلين زمن طويل.فلا يكاد يتوهم الذهن أن موسى قد فعل شيئا ما بين انصراف فرعون ورجوعه.
-الأمر الآخر هو أن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى الذي حدد الموعد:
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴿59﴾
والمتكلم بعد الآية هو موسى أيضا:
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴿61﴾
فكأن موسى يستأنف كلاما قريبا....أو كأن الآية (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى )اعتراض في حوار...فلا نجد إشارة إلى انصراف لموسى ولا لمجيء له....
والمعنى في ذلك –والله أعلم-أن صاحب الحق ثابت في مكانه لا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء ولا إلى استعانة بالغير....فكأن لسان حال موسى - - الواثق في وعد الله يقول : أنا هنا لا أحيد فاذهب حيث شئت واستعن بمن شئت وجئني متى شئت.
-3-
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴿60﴾
الأفعال المتلاحقة تشعر بالسرعة لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله......فانظر مثلا إلى قوة الجملة الوسطى: جمع كيده...
فعل "جمع" يختزل أوقاتا وأحداثا:إعلانات،وسفراء،ومبعوثين ،وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضا، وإغراءات، ووعودا: باختصار :
حالة استنفار قصوى.
والمفعول به :كيد ...يختزل من جهته الأفعال السحرية ،والرغبة في إزالة الحق بالباطل، فضلا عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة- فلا يقال الكيد إلا لما فيه خفاء-
فانظر إلى هذه الكلمة" كيد "كيف دلت على فكر وأهله ،كما دلت على نوايا وأصحابها، ودلت على خطط وتراتيبها.
ثم انظر إلى الرابطين لترى أسلوب القرآن المعجز:
"جمع كيده" جملة معطوفة على سابقتها بالفاء...والفاء تدل على الترتيب مع الفورية كما هو معلوم..... ففهمنا من ذلك أن فرعون مستعجل في أمره فقضية موسى لا تحتمل التأخير وفهمنا من فورية الجمع استبداد الفرعون وقيام الناس على خدمته واستجابة رغباته بأقصى ما يستطيعون.....فالأمر عند الفرعون يفيد الوجوب مع الفورية.
لكن" أتى "عطفت على الجمع ب "ثم "التي تفيد التراخي....لأن المقام يقتضي ذلك:
فنحن نفهم أنه بين جمع الكيد و الذهاب إلى الموعد انصرمت مدة نبهت إليها" ثم":
إنها مدة وضع المخططات والاتفاق على االوسائل وترتيب الأولويات واختبار الحيل ....ونستفيد أيضا قوة الحق الثابت عند موسى ......ففرعون وسحرته لم يرتجلوا شيئا بل دبروا أمرهم واخذوا الوقت الكافي لبناء كيدهم.......ثم بعد أتوا صفا....فانهزموا.
فتعجب من أسلوب القرآن كيف جمع بين:
-سرعة تلاحق الأفعال في السرد والحكي.
-وتعدد الفصول والمشاهد والأحداث في المسرود والمحكي.
41-لمحة في قوله تعالى:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }الأنبياء83
هذا الدعاء آية في البلاغة،يعجب المتدبر من فسحة في المعنى يتسع على ضيق من اللفظ :ست كلمات فقط!!
يتألف الدعاء من شقين :
-عرض للحالة.. "أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ"
-وطلب. ........"وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"
وفي كل شق نجد منتهى الأدب ،وأسمى الأخلاق ،وأعمق الإيمان..
1-لقد قطع "الضر" من النسبة إلى الله قياما بحق التأدب ...كما حكى القرآن قول إمام الموحدين:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{81}
فقد غير من الأسلوب، وخالف في الإسناد عندما ذكر "المرض" ،ثم استانف على المذهب الأول..
2-لم يسند إلى "الضر"إلا أخف الأفعال: "مس"- مع أن الضر كان قد تغلغل فيه ، ،وتمكن منه-دلالة على صبره ،وبعده عن كل جزع..
ولنلحظ هنا المرونة الفائقة في الكلمة القرآنية :فقد جاء مثل هذا التعبير في مواضع أخرى، ولكن بدلالات متضادة:
{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }يونس12
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }النحل53
ف"مس الضر" في الآيتين يدل على قلة الصبر، والنزوع إلى الجزع ...فالإنسان يهرع إلى التخلص من الضر عند أول مس الضر ..
وفي دعاء أيوب كان التعبير ب"مس الضر" أدل على تجذر الصبر، فقد أنزل الضر الذي سكنه سنين وكأنه لمسه فقط!!
فشتان بين النموذجين.
3-لا نجد بعد عرض الحالة طلبا ظاهرا،وإنما غلف الطلب في مظهر من الثناء على الله تعالى:
"وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"
وهذا الطي لتحقيق مقصدين إيمانيين:
مقصد التوكل والتفويض، ومقصد الثقة بالله تعالى...
فأيوب لم يطلب شيئا معينا، من شفاء أو غيره، بل فوض أمره لله ليستجيب له بما يشاء..وهو في هذا التفويض مطمئن إلى فعل الله ومتيقن من الاستجابة"وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"
4- في التعبير ب" أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" نكتة بلاغية لا توجد في "الرحمن الرحيم "مثلا..
فأرحم الراحمين يفهم منه وجود رحماء غير الله تعالى..لكن أيوب لا يلجا إلا إلى أرحم الراحمين..فالعبادة هنا مع خيار، وهي أشرف من العبادة التي تكون مع اضطرار ،من جنس عبادة المشركين الذين يلجؤون إلى الله فقط عند تقطع السبل وعجز الشركاء..فتأمل!
...........يتبع