حدث في التاسع من المحرم
في
التاسع من المحرم من سنة 656 توفي في القاهرة، عن 54 عاماً، الشاعر الأمير
سيف الدين المُشِدّ، علي بن عمر بن قزل بن جلدك التركماني الياروقي،
الشاعر الظريف الذي جمع بين الإمارة والأدب. والمُشِدّ كلمة تطلق على من
يقوم بضبط الأمور المالية وكأنه أقرب لمدير المالية، قال النويري في نهاية
الأرب: أما المشد أو المتولي، فالذي يحتاج إلى استرفاعه عند مباشرته: ضرائب
أصول الأموال والمرتب عليها ليعلم حال المعاملة، وما بها من الخالص، أو
عليها من الفائض؛ ويسترفع أوراقا بالحاصل والباقي والفائض والمتأخر، ليعلم
أحوال الناس ومحاسباتهم، ويعلم ممن يطلب وإلى من يصرف؛ والذي يلزمه عمارة
البلاد، واستجلاب من نزح منها، وإقامة السطوة، وإظهار المهابة والحرمة،
وتسهيل السبل، وإقامة الخفراء عليها، وتشييد منار الشرع الشريف، والتسوية
بين القوي والضعيف؛ ويلزمه استخراج الأموال من سائر جهاتها ووجوهها
المستحقة في مباشرته، والبواقي التي رفعت إليه بعد تحقيقها بحيث لا ينطرد
إلى الباقي الدرهم الفرد؛ ومتى انساق في مباشرته شيءٌ لزمه؛ ويلزمه تقرير
الجنايات والتأديبات على أرباب الجرائم لتنحسم بذلك مواد المفسدين.ولد
سيف الدين المشد في القاهرة سنة 602، وكان من أسرة أمراء فعمه الأمير فخر
الدين عثمان بن قزل كان أحد الأمراء الأكابر في دولة الملك الكامل الأيوبي،
قام فيها بكثير من المهام وتقلد فيها عديداً من الوظائف، وكان معروفاً
بفعل الخيرات، مبسوط اليد بالصدقات، يتفقد أرباب البيوت وغيرهم، وأنشأ
المدرسة الفخرية بالقاهرة، والمسجد المقابل لها، وكُتَّاب السبيل والرباط
بالقرافة بسفح المقطم، وأوصى بوصيةٍ ذكر فيها كثيراً من أنواع البر رحمه
الله تعالى، وتوفي سنة 629.تولى
سيف الدين أعمالاً مختلفة في الدولة، ولا تذكر لنا المراجع التاريخية
الكثير عن أعماله في الدولة، فقد غطت موهبته الشعرية على جوانب حياته
الأخرى، وإن كان يبدو أنه كان في مناصب مهمة في سنة 648 في دمشق، فقد دخلها
عنوة الملك الناصر يوسف، ونهبت بعض دور أمرائها الكبار ومنها دار سيف
الدين المشد، وكان آخر عمل تولاه شدَّ الدواوين بدمشق للملك الناصر يوسف
قرابة ثمانية سنوات إلى وفاته.تزوج
سيف الدين ابنة الأمير جمال الدين موسى ابن يغمور الذي كان أستاذ دار
الملك الظاهر، ونائب الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق، وكان عالي المنزلة
عند ملوك الدولة الأيوبية ومن بعدهم، وكان عفيفا كريما سمحا جوادا، كيسا
لطيفا، متواضعا حسن العشرة والسيرة، كثير البر والصدقة، وولد في سنة 599 في
يغمور قرب سمهود من أعمال قوص، وتوفي سنة 673 في المحلة ودفن في سفح
المقطم. وكان ذواقة للأدب يقرض الشعر ويثيب عليه.بدت
موهبة الشعر على سيف الدين منذ صباه، وكان ظريف الروح طيب العشرة تام
المروءة، فجاء شعره على هذا النسق خفيفاً لطيفاً يتسم بالمقطعات، في مواضيع
متعددة، وديوان شعره ليس بالكبير، وكان له رواج في زمانه، ونشره الدكتور
محمد زغلول سلام.وكان
لسيف الدين اهتمام بالطب النفسي وتقلبات المزاج، وطلب من أحد أشهر أطباء
زمانه الحكيم بدر الدين مظفر بن عبد الرحمن المعروف بابن قاضي بعلبك، أن
يكتب له في ذلك، فكتب له كتاب مفرِّج النفس، واستقصى في هذا الكتاب الأمراض
النفسية وأدويتها على اختلافها وتنوعها، وهو مفيد جداً في فنه.وتزوج
ابنه داود ابنة الملك الحافظ محمد بن شاهنشاه الأيوبي صاحب بعلبك، فجاءه
حفيدٌ نجيبٌ اسمه محمد ولقب بشمس الدين، عمل مع الدولة على خطى والده وجده،
فكان ناظر الجيش بصفد، فأقام بها زماناً، ثم إنه نقل إلى نظر جيش طرابلس،
وتوفي بها سنة 734، وكان فقيهاً حنفيا، له مشاركة في اللغة والأدب، ماهراً
في الرياضيات والفلك، وآلات المواقيت من الربع والاصطرلاب.ومن
أدباء عصره الحافظ اليغموري، يوسف بن أحمد الأسدي الدمشقي، المولود بدمشق
سنة 600، والمتوفى بالمحلة في مصر سنة وسمي باليغموري لأنه لازم الأمير
جمال الدين موسى بن يغمور، فعُرِفَ به، فلا يعرف إلا بالحافظ اليغموري،
وكان حلو المحادثة مليح النادرة لا تمل مجالسته. قال الحافظ اليغموري: ذكرت
للأمير سيف الدين المشد رحمه الله زهر السفرجل وحرَّصتُه على رؤيته، فلما
صار إليه ورأى بهجته كتب إلي يستدعيني:زهر السفرجل ما علمتَ فقد أشرتَ برؤيته
يدعوك دعوة شيِّق ... فاغنم إجابة دعوته
إن لم تعنه بنظرة ... أذبلتَ يانعَ نضرته
قال الحافظ: فأجزت هذه الأبيات ببيت تأدباً:حاشاه أن يذوي وقد ... حل الندى في ساحته
ومن
علماء عصره كذلك الأديب شرف الدين التيفاشي، أحمد بن يوسف بن أحمد
التيفاشي القيسي، المولود في تيفاش في شرقي الجزائر، والمتوفى بالقاهرة سنة
651، وهو أديب مؤلف له كتاب كبير في 24 مجلداً في علم الأدب، وسمّاه فصل
الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب، ورتبّه وجمع فيه من كل شيء
وتعب عليه إلى الغاية، وله كتاب في معرفة الجواهر. وأصاب التيفاشي صمم
فاتفق أن اجتمع يوماً بسيف الدين المشدّ وتوهم أنه سمع منه كلاماً لا يليق
به، فعاتبه فقال المشدّ أبياتاً يداعبه ويشيد بكل شيء ينتسب للصمم: أيها العالِم الذي زيّن العصر بما حازه من الآداب
والذي أعجزَ الأفاضل كالجاحظ فيما أتى به والصّابي
أنت تدري بأن سمعك- والله المعافي - في غاية الاضطراب
لست بالسامع الذي يدرك القول سراعاً فيهتدي للجواب
وفساد الحواسِّ في خلل الفهم يقيناً من أعظم الأسباب
إن ذا الناظر المَعيب - وحاشاك - يخال العقاب مثل الذباب
وعليل المذاق يشتبه الطعم عليه في شهده بالصّاب
وإذا صحّ ما أقول فلا يبعد أن قد سمعتَ ضدّ الصواب
لم أزل فيك مُسهباً ولما حزتَ من الفضل دائم الإطناب
رجَبٌ قد علمت وهو أصمٌّ ... عظّمته أفاضل الأعراب
وكذاك الرماح توصف بالصُمِّ إذا أصبحت صحاح الكعاب
والحساب الأصم أحسن شيء ... عجزت عنه عامة الحُسَّاب
والصخور الصمّ المنيعات تسمو ... غيرها من حجارةٍ وهضاب
والكميت الأصمّ في الخيل أجرى ... من ظليمٍ يمرّ مرّ السّحاب
إنّما أنت قد تجنّيت ظلماً ... وتصنعت في فنون العتاب
والذي قد أردتَه أنا أدريه بلا مِريةٍ ولا ارتياب
ومن
معاصريه الأمير فخر الدين ابن الشيخ، يوسف بن محمد بن حمويه، المولود سنة
582 والمتوفى شهيداً بيد الفرنج على المنصورة في سنة 647، وحمل إلى
القاهرة، وكان دفنه يوماً مشهوداً، وعمل له عزاء عظيم، وقال سيف الدين
المشد يرثيه:فُضَّ فمٌ نعى لنا ... يوم الخميس يوسفا
وا أسفاً من بعده ... على العُلا وا أسفا
وفي
سنة 654 وقعت بالمدينة المنورة زلزلة استمرت عدة أيام أعقبتها نار عظيمة
من الحرة سالت بها الأودية منها سيل الماء، فقال سيف الدين المشد قصيدة في
هذه النار نورد منها ما ضمنه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشواقه
له:ألا سلما عني على خير مرسل ... ومَن فضلُه كالسيل ينحط من علِّ
وقولا له: إني إليك لشيِّق ... عسى الله يدني من محلك محملي
فتخمد أشواقي وتسكن لوعتي ... وأصبح عن كل الغرام بمعزل
فيا راحلا عن طيبة إن طيبة ... هي الغاية القصوى لكل مؤمل
قفا نبك ذكراها فإن الذي بها ... أجل حبيب وهي أشرف منزل
دخلت إليها محرما وملبيا ... وأضربت عن سقط الدخول فحومل
مواقف أما تربها فهي عنبر ... وأما كَلاها فهو نبت القرنفل
يفوح شذاها ثم يعقب نشرها ... لما راوحتها من جنوب وشمأل
فيا خير مبعوث وأكرم شافع ... وأنجح مأمول وأفضل موئل
عليك سلام الله بعد صلاته ... كما شُفِعَ المسك العبيق بمندل
ومن شعر في محبة أئمة آل البيت والسير على نهج أخلاقهم:إني وإن أصبحت سُنِّياً ... أحبُ آل المصطفى الهاشمي
في حالة السخط أوالي الرضا ... وأقتدي في الغيظ بالكاظم
ومن شعره يحمد الله على توفيقه واشتهاره في عمله: الحمد لله في حلي ومرتحَلي ... على الذي نلت من علم ومن عمل
بالأمس كنت إلى الديوان منتسباً ... واليوم أصبحت والديوان ينسب لي
وقال:
يا عاذلي، خلِّ عنِّي ... أسمعتَ غير سميعِ
لا ترج مني سُلوّاً ... فما فؤادي مُطيعي
وكيف أكتم ما بي ... من لوعة وولوعِ
والذَّاريات جفوني، ... والمرسلات دموعي
وقال يتغزل ويجعل الشمس تتحجب لو رأت محبوبته:
وبمهجتي من لو بدت ... للشمس من تحت النِّقابْ
سترت محاسن وجهها ... خجلاً، ولاذت بالسَّحابْ
وقال يشتاق إلى دمشق الفيحاء:فؤادي إلى بانات جلّق مائل ... ودمعي على أنهارها يتحدّر
يرنّحني لوز ابن كلاّب مزهراً ... وتهتزّني أغصانه وهو مثمر
وإنّي إلى زهر السفرجل شيّقٌ ... إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر
غياضٌ يفيض الماء في عرصاتها ... فتزهو جمالاً عند ذاك وتزهر
ترى بردى فيها يجول كأنّه ... وحصباءه سيفٌ صقيلٌ مجوهر
ومن شعره يطالب من غناه بأن يغنيه شعر الغزل:يا مطرباً أغنى النديمَ غناؤه ... عن طيْبِ مشموم وعن مشروبِ
شبِّبْ إذا غنيتنا متغزلاً ... إن الغناء يطيب بالتشبيب
وقال أيضاً يصف الشبَّابة وهي أداة موسيقية تشبه الناي:وعاريةٍ من كل عيبٍ، حبيبةٍ ... إلى كل قلبٍ بات بالبين مجروحا
لها جسدٌ ميتٌ يعيش بنفخةٍ ... متى داخلته الريح صارت به روحا
تعيد الذي يلقى عليها بلذةٍ ... تزيد فؤاد الصبِّ وجداً وتبريحا
وتنطق بالسحر الحلال عن الهوى ... وتوحي إلى الأسماع أطيب ما يوحى
ومن شعره بيت بديع، لو قلبت كل كلمة بقيت هي هي:ليلٌ أضاء هلالُه ... أنّا يُضيء بكوكب!
ومن شعره في فرقة الأحباب وبقاء المودة: لئن تفرقنا ولم نجتمع ... وزادت الفُرقة عن وقتها
فهذه العينان مع قربها ... لا تنظر العين إلى أختها
ومنه في مليحة عمياء:علِقتُها نجلاءَ مثل المهى ... فخان فيها الزمن الغادرُ
أذهب عينيها فإنسانُها ... في ظلمة لا يهتدي حائر
تجرحُ قلبي وهي مكفوفة ... وهكذا قد يفعل الباتر
ونرجسُ اللحظ غدا ذابلاً ... واحسرتا لو أنه ناضر
ومن شعره:إن العيون لكالحصون فهُدبها ... شرفاتُها وجفونها الأسوار
وكذا محاجرها الخنادق حولها ... والحافظون لها هم الأنوار
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى فيمن نصحه بالسلو عن محبوبه:قالوا تبدّل، قلتُ يا أهل الهوى ... والنّاس فيهم عاذرٌ وجهولُ
هل بعد قطع الأربعين مسافةٌ ... للعمر فيها يحسُنُ التبديل
وله:وفَتْ دموعي، وخانني جَلَدي ... ما كان هذا الجفاء في خَلَدي
لله أيدي النّوى وما صنعتْ ... أجْرت دموعي وأحرقتْ كبدي
يا من هو النور غاب عن بصري ... ومن هو الرّوح فارقتْ جسدي
حتّى متى ذا الجفا بلا سبب ... أما لهذا الدّلال من أمد؟
ومنه: وغزالٍ قلتُ: ما الاسم ... حبيبي؟ قال: مالِكْ
قلت: صف لي وجهك الزاهي وصف حسن اعتدالك
قال: كالبدر وكالغصن وما أشبه ذلك
ولما توفي سيف الدين المُشِّد رثاه الكمال العباسي:أيا يوم عاشورا جُعِلتَ مصيبة ... لفقد كريم أو عظيم مبجل
وقد كان في قتل الحسين كفاية ... فقد جلَّ بالرزء المعظم في علي
ورآه بعضهم بعد موته، فسأله عن حاله فأنشده:نُقِلتُ إلى رْمِس القبور وضيقها ... وخوفى ذنوبى أنها بى تَعْثُرُ
وصادفت رحمانا رؤوفاً وأنُعماً ... حبانى بها لِما كنت أحذَرُ
ومن كان حُسْنُ الظن في حال مَوته ... جميلاً بعفوِ الله فالعفْوُ أجْدَرُ
ونختم
سيرته رحمه الله بأبيات له طريفة في طبيب اسمه موسى، كان والموت صنوان،
فنظم فيه هذه الأبيات مذكراً بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أكثروا ذكر هاذم اللذات. قال سيف الدين المُشِّد:إن موسى الطبيب لا رده الله ... تعالى ولا رأى ما يريدُ
أكثِروا ذكره فقد جاء في ... النقل حديثٌ ما إن عليه مزيدُ
واستعيذوا من شره في نفوس ... فهو شيطانها الرجيم المريد
ليس فيه من الفضائل إلا ... كل ميْتٍ على يده شهيد