دراسة تاريخية لالتقاء الأصليْن
أصول الدين وأصول الفقه، أية علاقة؟
سليمان بن الحسن القـراري
تقديم:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له كما يجب لجزيل نعمائه وكثير ألطافه، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه.
من المسلم به -عند الباحثين -أن الإمام الشافعي لم يوظف علم الكلام في الدراسة الأصولية، ذلك أن رسالته التي وضعها خصيصا لتقنين القواعد والأدلة الأصولية تخلو تماما من المباحث الكلامية، الأمر الذي جعل الدارسين يؤرخون لعملية التقاء الأصلين -أصول الدين وأصول الفقه -بعد صدور كتاب «الرسالة»، وتحديدا بعد منتصف القرن الثالث الهجري. فمحمد العروسي في كتابه «المسائل المشتركة» يؤكد على أن للجُبّائِيَـيْن محمد بن عبد الوهاب (توفي303ﻫ) وابنه عبد السلام (توفي321ﻫ) مقولات مدونة في أصول الفقه قائمة على أصول الاعتزال، وهو ما تنبّه إليه من قبل مصطفى عبد الرزاق، وعوَّل عليه مسعود فلوسي في رسالته «مدرسة المتكلمين». ونحن إذا علمنا أن إسهامات الجبّائِيَـيْن في المزج بين الأصلين كانت -وقتها -مسألة مألوفة عند المعتزلة، تبين لنا أن ثمة مرحلة للالتقاء الأصلين سابقة على الحقبة الزمنية التي أرَّخ عندها هؤلاء، والتي يمكن إرجاعها إلى عهد الخليفتَين المأمون [198ﻫ -218ﻫ] ثم المعتصم [218ﻫ -227ﻫ] اللذَيْن اعتنقا مذهب المعتزلة وتعمقا في أصوله، فكان من الطبيعي بعد ترسيم المذهب الاعتزالي على عهدهما حدوث حركة فكرية واسعة النطاق، تمت فيها عقلنة أكثر العلوم الشرعية، خاصة علم الأصول الذي يعتبر الوسيلة الشرعية لمنصبي القضاء والإفتاء، المباشرَين رسميا من طرف الدولة.
أولا: المرحلة الأولى لالتقاء الأصلين أصول الدين وأصول الفقه.
مع الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري إلى بداية القرن الموالي شهدت البصرة نشاطا فكريا من قِبل المعتزلة، تمازج فيه الكلام بالأصول. فأبو بكر الأصم (توفي201ﻫ) بعدما تمكن من أصول الدين على طريقة الاعتزال ألَّف «الحجة والرسل» و«الرد على الملحدة»، و الم تذكر له المصادر مؤلفات في أصول الفقه، فإنه لا شك تكلم في ذلك. وقد قام علي الضويحي في كتابه «آراء المعتزلة الأصولية» بتسجيل جملة من آرائه الأصولية، التي جاءت معبِّرة عن مذهبه الاعتزالي. ويأتي بشر المريسي كي يمثل حلقة مهمة من تاريخ الاعتزال في بغداد، فبعدما برع في الكلام، وجمع بين مذهبي القدر والإرجاء، عكف على دراسة الفقه وأصوله -بعد ملازمته لأبي حنيفة - في مجلس القاضي أبي يوسف، فكتب تواليف في المذهب الحنفي، بوَّأته مكانة عند مشايخ الكوفة، إلى أن أظهر القول بخلق القرآن ففارقته الجماعة، وظلَّلته أكثرُ الفرق خصوصا المرجئة، ثم وافق المفوِّضة في القول بأن الله هو خالق الأفعال، فكفرته المعتزلة، فصار الرجل مهجور المفوِّضة والمعطلة معا. ولِبشرٍ جمل من الآراء الأصولية بناها على مذهبه الكلامي، كقوله بتأثيم المجتهدين في فروع الشريعة، ليخالف بذلك إجماع العلماء، خصوصا شيوخه المعتزلة الذين شدَّدوا عليه النكير على لسان أبي بكر الأصم. ولعل بِشراً تأثر في مقاله ذلك بعلم الكلام، الذي يكون فيه الحق واحدا، فإذا أصابه المجتهد كان مثابا، وإن أخطأه كان آثما.
وإذا رجعنا إلى البصرة -مهد الاعتزال -بعد وفاة بشر المريسي مباشرة، ظهر لنا على الساحة الفكرية قطبان من أقطاب المعتزلة، أبو الهذيل العلاف (توفي235ﻫ)، وتلميذه أبو إسحاق النظام (توفي231ﻫ)، اللذان جاءت آراؤهما الفكرية متأثرة بالاعتزال إلى حد المغالاة. فالرجل الأول وإن جاءت أقواله في أصول الفقه على طريقة شيوخه المعتزلة إلا قليلا مما تفرد به، فإنه في أصول الدين شذّ عنهم في أكثر المسائل العقدية، مما دفع بأكثرهم إلى تبديعه وتكفيره، كابن المردار (توفي226ﻫ) الذي ألف في فضائحه كتابا يكفِّره فيه، وتبعه في ذلك الجبّائي في «الرد على أبي الهذيل». أما الرجل الثاني فقد خالف جمهور المعتزلة وشذّ عنهم في الأصلين معا، فكفَّره شيوخه في مقدمتهم محمد العلاف في «الرد على النظام». ويصور لنا البغدادي (توفي429ﻫ) مسلك النظام في الشرعيات بقوله: «ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها… فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجة الإجماع، وحجة القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري… وطعن في فتاوى أعلام الصحابة.» وهذا المقال عن النظام -وهو الفقيه الذي ألَّف النكت في أصول الفقه -لم يبق للرجل أصولا، ولولا تجريح المعتزلة له -وهم أعلم القوم بسيرته -لما ألقينا بالا لمقال البغدادي، وقد كان الرجل أعلم زمانه بالفقه واختلاف الناس في الفتيا.
ثانيا: المرحلة الثانية لالتقاء الأصلين أصول الدين وأصول الفقه
لقد شكلت هذه المرحلة منطلقا قويا لعملية التقاء الأصلين، لأنها في نظر الدارسين لم تعد حكرا على المعتزلة، وإنما شارك فيها مذهبان كلاميان آخران، المذهب الأول انبثق من رحم المعتزلة مع نهاية القرن الثالث الهجري متجليا في مدرسة الأشعرية، والتي جاءت على شكل معارضة كلامية للمذاهب السائدة وقتها، بعدما خبر مؤسسها أبو الحسن الأشعري (توفي324ﻫ) الاعتزال ووقف على فضائله ومناقبه. أما المذهب الثاني فقد تمثل في مدرسة الماتريدية، التي شيَّد أركانها أبو منصور الماتريدي (توفي333ﻫ). هذا التنوع الفكري الذي شهده العالم الإسلامي مع مطلع القرن الموالي، جاء نتيجة اهتمام كل مدرسة كلامية بدراسة القواعد الأصولية على أصولها العقدية، فمن المعتزلة نجد أبا علي الجبّائي (توفي303ﻫ) -شيخ البصرة وقتها -قد برع في الفقه والأصول، بجانب رسوخ قدمه في علم الكلام، فألف في الاجتهاد والأصول، وإن لم يصلنا شيء من مؤلفاته، فإن آراءه الأصولية مبثوثة في بطون المؤلفات بما يكفي من الإقرار له بالمكانة العلمية، وقد كان مرجعا لأكبر الأصوليين، أمثال القاضي عبد الجبار (توفي415ﻫ)، وتلميذه أبي الحسين البصري (توفي436ﻫ)، وابن فورك (توفي403ﻫ)، وغيرهم من مختلف المدارس الأصولية. ويأتي ابنه أبو هاشم عبد السلام (توفي321ﻫ) فيدقق مذهب والده في الكلام والأصول نفيا وإثباتا، بعدما انتهى من صناعة الأصلين طلبا وتأليفا، فكتب على طريقة المعتزلة «العدة في أصول الفقه» حتى عُدَّ من طبقة الأصوليين. والذي يدل على مكانته العلمية -بجانب موروثه الكلامي الذي قامت على أساسه فرقة البهشمية -موروثه الأصولي الذي تدارسه الأصوليون تحقيقا وتعليقا، خصوصا الأشاعرة أمثال الغزالي (توفي505ﻫ)، والرازي (توفي606ﻫ)، والآمدي (توفي631ﻫ)، ومن قبلهم الجويني (توفي478ﻫ) الذي نراه في مواطن عدة ينتصر له، وإن كان في ذلك مخالفة صريحة لشيخه الباقلاني.
ومتابعة للجُبّائيَين واصل أبو عبد الله البصري (توفي369ﻫ) دراسة القواعد الأصولية على طريقة شيوخه المعتزلة، فألَّف «الأصول ونقض الفتيا» بعدما برع في الفقه الحنفي الذي كتب على أصوله «الأشربة» و«تحريم المتعة» ولقد أفاد أبو عبد الله كثيرا من الأصوليين، خصوصا تلميذه القاضي عبد الجبار الذي لا يكاد يبتعد عن آرائه الأصولية في جزء «الشرعيات» من كتابه المغني.
وفي مقابل هذا الاهتمام البالغ الذي أولاه المعتزلة للفكر الأصولي، كان الأشاعرة يأتون على مقرراتهم بالنقض والبطلان، خصوصا المباحث النظرية الدخيلة على أصول الفقه، بوصفها أرضية قد تمكن الخصم من إخصابها على طريقته الخاصة، فمؤسس المذهب المعارض أبو الحسن الأشعري بادر إلى تعزيز موقفه الأصولي بقدرٍ من الاختيارات الفكرية المعبِّرة عن مذهبه الكلامي، فألَّف «الاجتهاد في الأحكام» و«القياس» و«مسائل في إثبات القياس وإثبات الإجماع» وكتابا في أصول الفقه، وغيرها من المؤلفات التي هي في حكم المفقود. وكل ما وصلنا جملة من الآراء الأصولية جمعها ابن فورك في كتابه «مجرد مقالات الشيخ الأشعري»، وأغلبها آراء قامت على أصول أشعرية.
ومما لا شك فيه أن الأشعري لم يكن ليفتح على نفسه مواجهة أصولية بمفرده مع مذهب مكتمل البنيان كمذهب المعتزلة، وهو لازال يخوض معركة عقدية مع مختلف المذاهب الكلامية، مما يعني أنه استند في مهمته تلك إلى أقرانه الأصوليين، خصوصا إلى رجلين خبرا المذهب الشافعي أصولا وفروعا. الرجل الأول كان أعلم الناس بأصول الفقه بعد الشافعي، ويتعلق الأمر بشارح «الرسالة» أبي بكر الصيرفي، الذي على طريقة صاحبه الأشعري ألف «دلائل الأعلام على أصول الأحكام»، أما الرجل الثاني فقد كان أعلم الناس بالفقه الشافعي، وعلى يده انتشر المذهب بما وراء النهرين، ويتعلق الأمر بصاحب «محاسن الشريعة» القفال الشاشي (توفي365ﻫ)، الذي أخذ عنه الأشعري الفقه وبعض مزالق المعتزلة لما خبر -هو الآخر -مذهبهم زمنا طويلا. بهذا شكّل هذا الثلاثي منهجا متكاملا في تقرير القواعد الأصولية وتحقيقها على طريقة كلامية فريدة، كانت بمثابة اللبنة الأولى لمدرسة المتكلمين الأشاعرة.
وخلال هذه الأثناء التي زخرت فيها حاضرة الخلافة العباسية بغداد بالتنوع الفكري بشقيه العقدي والأصولي، كان أبو منصور الماتريدي في سمرقند يترأس حركة إحياء المذهب الحنفي أصولا وفروعا، بما وصل إليه من رياسة علمية قلَّ نظيرها، وقد ألَّف في الأصلين معا، ففي أصول الدين كتب «التوحيد» وفي أصول الفقه «مآخذ الشرائع» و «الجدل في أصول الفقه»، حيث نهج في الكتابين الأخيرين منهجا يقوم على الموروث الكلامي الذي خلَّفه أبو حنيفة في «الفقه الأكبر»، وهو ما أشار إليه علاء الدين السمرقندي (توفي539ﻫ) بقوله: «وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع… و تصانيف أصحابنا رحمهم الله في هذا النوع قسمان: قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان، لصدوره ممن جمع الفروع والأصول، وتبحر في علوم المشروع والمعقول، مثل الكتاب الموسوم ب- "مآخذ الشرائع" والموسوم بكتاب "الجدل" للشيخ الإمام الزاهد رئيس أهل السنة أبي منصور الماتريدي السمرقندي، ونحوهما من تصنيف أستاذيه وأصحابه رحمهم الله، وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني، وحسن الترتيب والمباني، لصدوره ممن تصدى لاستخراج الفروع عن ظواهر المسموع، غير أنهم لما لم يتمهروا في دقائق الأصول في قضايا العقول، أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول، ثم هجر القسم الأول إما لتوحش الألفاظ والمعاني، وإما لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر.»
ثالثا: المرحلة الثالثة لالتقاء الأصلين أصول الدين وأصول الفقه
مع أفول القرن الرابع الهجري غدا الكلام والأصول علمين متداخلين مباحث ومناهج، وأمست اللغة السلسلة التي كانت تُنسج على منوالها المؤلفات الأصولية -كرسالة الشافعي -لغة كلامية وعرة العبارات. إنها مرحلة التفاعل الكامل بين الأصلين تدريسا وتأليفا، ظهر أثناءها جِلَّة من الأصوليين لا زالت كتاباتهم الأصولية لحد الساعة محل تحقيق وتدقيق. كالقاضي عبد الجبار(توفي415ﻫ) الذي بجانب رسوخ قدمه في الكلام، برع في أصول الفقه على طريقه المعتزلة، ولولا المنية لوصلنا كتاب عزم على إملائه، يتمازج فيه الأصلان تمازجا متكاملا، مصرحا به: «ونحن بعون الله وتوفيقه إذا سهل السبيل إلى ذلك -إملاء أصول الفقه -على الطريقة التي سلكناها في أصول الدين، ونكشف على الأغراض والحقائق في كل باب، ونذكر الدليل فيما الحق فيه واحد، وما عليه تنبني المسألة، وفيما طريقه الاجتهاد من غير تعصب لمذهب دون مذهب.» وإن أدركه الأجل قبل تحقيق مراده فقد قدَّم للمكتبة الأصولية نموذجين مصغَّرين لما كان ينوي تأليفه، الأول تمثل في جزء «الشرعيات» الذي ضمَّه إلى موسوعته العقدية «المغني في أبواب التوحيد والعدل» باعتباره بحثا أصوليا يقوم على أصول اعتزالية، والثاني كتابه «العمد» الذي اعتبره ابن خلدون من أجود الكتب التي أُلفت على طريقة المتكلمين.
وفي عصر القاضي عبد الجبار ذاع صِيتُ قاضي السنة ببغداد الباقلاني (توفي403ﻫ)، الذي سلك في تقرير القواعد الأصولية طريقة شيخه الأشعري، فكتب «التقريب والإرشاد» الذي اختصره في «الإرشاد المتوسط» و«الإرشاد الصغير»، وهذا الأخير هو المؤلف الوحيد الذي وصلنا من كتبه الأصولية، وما سواه ظل مفقودا مثل «المقنع في أصول الفقه» و«الأحكام والعلل»، والذي يدل على مكانته الأصولية -بجانب مؤلفاته -آراؤه الأصولية التي هيمنت على أفكار الأصوليين وكتاباتهم زمنا.
بهذا يكون القاضيان، قاضي المعتزلة عبد الجبار، وقاضي السنة الباقلاني، قد انتقلا بالتأليف الأصولي إلى مرحلة التفاعل الكامل مع علم الكلام، يقول بدر الدين الزركشي (توفي794ﻫ) مشيرا إلى هذا التحول الأصولي: «حتى جاء القاضيان، قاضي السنة أبو بكر الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوضعا العبارات، وفكَّا الإشارات، وبيَّنا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم، وصاروا على لاحب نارهم، فحرروا وقرروا وصوروا.» وهذا الكلام إشارة واضحة إلى دور القاضيَين في المزج بين الأصلين، إذ ليس من الصدفة أن ينسبهما الزركشي -وهو العارف بأحوال الأصوليين -إلى مذهبيْهما الكلاميَين، بدل مذهبيهما الفقهيَين في مثل هذا المقام، فهي نسبة مقصودة لذاتها للدلالة على دورهما الكلامي في مجال أصول الفقه، ثم إن الذي يحتاج إلى "توسيع العبارات، وفك الإشارات، وبيان الإجمال، ورفع الإشكال" إنما القضايا الكلامية الموظفة في مجال أصول الفقه، وهذا بالضبط ما قام به القاضيان على حد سواء، أما المسائل الأصولية الرئيسة فما كانت داعية إلى مثل ذلك لوضوحها. وحاول أحمد الريسوني في معرض حديثه عن مقال الزركشي، أن ينسب فضل هذا التحول الأصولي إلى قاضي السنة الباقلاني دون قاضي المعتزلة عبد الجبار، فقال: «وإذا علمنا أن القاضي الباقلاني متقدم على القاضي عبد الجبار، وأنه توسع في أصول الفقه أكثر بكثير من القاضي عبد الجبار، علمنا أن التحول الذي يشير إليه الزركشي يصدق على الباقلاني قبل غيره وأكثر من غيره.» ولعل أستاذنا الريسوني لفرط إعجابه بأشعرية ومالكية الباقلاني، لم يبق لقاضي المعتزلة حقا في هذا التحول، فبجانب وضوح كلام الزركشي وصريح عبارته التي تشيد بدور قاضي المعتزلة أيضا في المزج بين الأصلين، فإن القول بتقدم الباقلاني على عبد الجبار في الوجود ولادة، وفي علم الأصول دراية، دعوى لا حظ لها من الصحة. ذلك أن الباقلاني بإجماع المحققين ولد سنة (338ﻫ.)، وقد كان القاضي عبد الجبار وقتها في نيسابور يتلقى الحديث رواية ودراية عن المحدث أبي يوسف يعقوب بن محمد. أما قوله بأن الباقلاني توسع في الأصول أكثر بكثير من قاضي المعتزلة، فمردود بشهادة ابن خلدون الذي قدَّم القاضي عبد الجبار على غيره -رغم موقفه ضد المعتزلة - واعتبر كتابه «العمد» أحد الكتب الأربعة التي هي أعمدة علم الأصول، فقال: «وكان أحسن ما كتب فيه المتكلمون -أصول الفقه -كتاب البرهان لإمام الحرمين، والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية، وكتاب العمد لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه.» هذا وإن الأقطاب الثلاثة الذين ذكرهم ابن خلدون لا يكاد الواحد منهم يبتعد عن كتاب «العمد» أخذا أو نقدا، فأبو الحسين البصري -بدافع اعتزاله -ألَّف شرحا للعمد، أما الجويني وتلميذه الغزالي -فبدافع أشعريتهما -كان «العمد» محور انتقاداتهما. لذا فالقاضي عبد الجبار -وهو الرجل الذي فتق علم الكلام، ونشر بروده، ووضع فيه الكتب العديدة -لا يمكن التقليل من مكانته العلمية بحال عن مكانة الباقلاني. ولعل مناظرة أبي القاسم البستي -تلميذ القاضي عبد الجبار -التي قطع فيها حجة القاضي الباقلاني -على جلال قدره -أكبر دليل على ما ذهبنا إليه. لذا فإن حظ القاضيين من هذا التحول الأصولي يبقى على حد المساواة، فالقاضي عبد الجبار من جهة أنه كان يُقعِّد للفكر الأصولي من خلال المذهبين: الاعتزالي الشافعي، أما القاضي الباقلاني فمن خلال المذهبين: الأشعري المالكي، مما يعني أن مسألة التفاضل بينهما تبقى شبه متعذرة.
ومع بداية العقد الثاني من القرن الخامس الهجري واصل أبو الحسين البصري (توفي436ﻫ) مسيرة شيخه القاضي عبد الجبار، فكان من بعده مرجعا للمعتزلة حتى قيل فيه «إذا خالف أبو الحسين البصري في مسألة، صعب الرد عليه فيها.»، فبعدما أتقن صناعة الكلام، ألَّف فيه كتبا زاوج فيها بين المنهج الذي درج عليه المعتزلة وبين الفكر الفلسفي، ليشكل بطريقته تلك منعطفا بارزا من تاريخ تطور المذهب الاعتزالي. ولعله المنهج ذاته سلكه في علم الأصول، والقارئ لكتابيه «المعتمد» و«شرح العمد» يلمس جانبا كبيرا من الطرق الفلسفية والكلامية المعوَّل عليها في الدراسة الأصولية.
رابعا: المرحلة الرابعة لالتقاء الأصلين أصول الدين وأصول الفقه
عرف المذهب الاعتزالي بعد منتصف القرن الخامس الهجري تراجعا ملحوظا عن المشهد الفكري لأسباب فكرية وأخرى سياسية، في الوقت الذي مكنت لغيرهم من الفرق مجالا مفتوحا للبحث العلمي، خصوصا الأشاعرة، فأبو المعالي الجويني (توفي478ﻫ) أقام كتابه «البرهان» الذي وضعه لأصول الفقه على أصول أشعرية، ولم يقف عند حدود شيخه الباقلاني في «التقريب والإرشاد»، وإنما أضاف إليه طرقا بوأت له مكانة، حتى صار برهانه منطلق الكتابة الأصولية طيلة القرنيين السادس والسابع الهجريين، مثلما كان كتاب «الرسالة» للشافعي منطلق الكتابة الأصولية طيلة القرنيين الثالث والرابع. وجاء أبو حامد الغزالي (توفي505ﻫ) الذي يعتبر امتداد لشيخه الجويني، فألَّف «المنخول» الذي يُعد تلخيصا أمينا لكتاب «البرهان»، وصورة مطابقة له في التقسيم والتبويب، ثم ألَّف بعدها «شفاء الغليل» الذي أظهر من خلاله ملكة أصولية عالية، مهدت له تأليف «المستصفى» على أصول أشعرية مدونة في مؤلفاته العقدية مثل «الاقتصاد في الاعتقاد» و «قواعد العقائد» وغيرهما من الكتب المستمدة من عقيدة شيخه في «الإرشاد» و«الشامل»، ولم يتوقف الغزالي عند ذلك وإنما نهض بالتوظيف المنطقي في محاولة لإيجاد ضوابط محددة للمصطلحات الأصولية، ليعتبر بهذا العمل المازج الحقيقي للمنطق الأرسططاليسي بعلم الأصول، لا لمِا وضع من كتب منطقية مفردة، بل لتلك المقدمة المنطقية التي وضعها في كتابه «المستصفى»، والتي كانت منطلقا لضبط المصطلح الأصولي بالمنطق عند متكلمة الأصول.
وبجانب الأشاعرة ظهر ثلة من الفقهاء كان لهم اهتمام محدود بعلم الكلام، فجاءت مؤلفاتهم الأصولية شبه خالصة من الكلام. من بينهم أبو الوليد الباجي (توفي474ﻫ)، فرغم أشعريته لم يتقيَّد بذكر المقولات الكلامية في كتابه «إحكام الفصول»، وإنما خصَّص لها مكانا في كتابه «التسديد إلى معرفة التوحيد»، نفس المسلك اهتدى إليه معاصره أبو إسحاق الشيرازي (توفي476ﻫ) في كتابه «شرح اللمع»، إلا قليلا مما يقتضيه التقعيد الأصولي فقد بناه على عقيدة أشعرية. ثم جاء مفتي خرسان أبو المظفر السمعاني (توفي489ﻫ) فصرَّح في كتابه «قواطع الأدلة» بضرورة تصفية أصول الفقه من علم الكلام تماما، فقال: «وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب، وتصانيف غيرهم، فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام، ورائق من العبارة، لم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه.» وسار على هذا النهج بعض اللاحقين كألكيا أبي الحسن (توفي504ﻫ)، وأبي الخطاب الكلوذاني (توفي510ﻫ)، وابن برهان (توفي520ﻫ) وغيرهم.
خامسا: المرحلة الخامسة لالتقاء الأصلين أصول الدين وأصول الفقه
مع الثلث الأخير من القرن السادس الهجري دخل العالم الإسلامي مرحلة التفكك، إثر تردي الأوضاع السياسية التي خيّمت على بيت الخلافة، الأمر الذي انعكس على المدارس الفكرية سلبا، خاصة المدرسة الأصولية التي قلَّ فيها التأليف على منهج المتكلمين، وكل ما فعله العلماء وقتها أنهم عكفوا على تلخيص الكتب السابقة، واختصارها، ووضع الحواشي والتعليقات عليها، باستثناء بعض المحاولات القليلة الجادة. ومن أبرز رجال هذه المرحلة فخر الدين الرازي (توفي606ﻫ) الذي ألَّف «المحصول»، ولم يكد يخرج فيه عن كتابي «المستصفى» للغزالي و «المعتمد» لأبي الحسين البصري، وقام بتلخيصه من بعدُ تاج الدين الأرموي (توفي656ﻫ) في «الحاصل من المحصول»، الكتاب الذي استخلص منه ناصر الدين البيضاوي (توفي685ﻫ) مؤلفه «المنهاج». ويأتي سيف الدين الآمدي (توفي631ﻫ) فكان أميل إلى الاحتجاج، ومولعا بتحقيق المذهب، وتفريع المسائل في كتابه «الإحكام»، والذي معظم مادته الكلامية التي وظفها في تقرير القواعد الأصولية استمدها من عقيدة الغزالي، الأمر الذي دفع بابن الحاجب (توفي646ﻫ) إلى تلخيصه -الإحكام - في «المختصر الكبير»، ولم يخرج فيه عن مذهب المصنف. فحصلت بهذه المختصرات زبدة أصول الفقه، وقد تعاقب الأصوليون عليها شرحا وتعليقا، ليتوقف الفكر الأصولي عند هذه الحدود الضيقة خصوصا مع نهاية القرن السابع الهجري.
المصدرhttp://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-86-112512.htm