في
كتاب جديد لـممدوح الشيخطارق
البشري مهندس التعديلات الدستورية قاضيا.. مؤرخا..ومفكرا كان اسم طارق البشري
في الثقافة العربية يستدعي إلى الذهن تاريخه كقاضٍ وصل إلى منصب نائب رئيس مجلس
الدولة بمصر، كما كان يستدعي بالقدر نفسه عطاءه كمفكر بدأ يساريا ومر بمراجعة
فكرية شهيرة انتقل بعدها إلى المعسكر الإسلامي. لكن ثورة الخامس والعشرين من يناير
أضافت صفحة جديدة إلى الكتاب الحافل بالمعالم الهامة، عندما كلفه المجلس الأعلى
للقوات المسلحة برئاسة لجنة قضائية تولت إدخال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها
في التاسع عشر من مارس. وبين التكليف والتصويت كان اسم طارق البشري يتردد بكثر في
الإعلام المرئي والمسموع.
والمؤلف يقرر في
البداية أن البشري يشغل موقعا مهما في ثقافتنا العربية المعاصرة، وهو بسمته الهادئ
الوقور صوت مسموع وقامة كبيرة، مؤرخا ومفكرا وداعية إصلاح سياسي. وإذا كان عمله
بالقضاء قد منحه لقب "المستشار"، فإن تركه منصة القضاء قد حرره من قيود
يوجبها المنصب الرفيع، ليفتح أمامه بابا واسعا لأن يضيف إلى كتابه الزاخر بالعطاء
الفكري صفحة جديدة هي صفحة "داعية الإصلاح السياسي"، وهو مقام نرى أنه –
رغم التقدير الشديد لمكانة القضاة – الموقع الأرفع!
وقد أخذ طارق البشري من
القضاء سمات صارت – بطول الملازمة – صفات لصيقة بالرجل. وفي تقديري المتواضع فإن
طارق البشري دخل عالم التأريخ بأدوات القاضي، وخاض بحار الفكر بحس الإصلاحي فتأثرت
اختيارته ورؤاه إلى حد كبير بحس إنساني/ عميق، فلم يكن أبدا محايدا ولا أداتيا.
ومن تقاليد عريقة تشـرَّبها
طارق البشري من مدرستي: العائلة والقضاء أخذ صفة إنكار الذات. وفي المقدمة يتوقف
المؤلف أمام ظاهرة عزوف البشري عن كل ما يشير إلى ميل مبالغ فيه لتقدير الذات –
شأن كثير من المثقفين – يقول ممدوح الشيخ: وقد بحثت طويلا عن مصادر تتناول حياة
الرجل فوجدتها نادرة ندرة ملفتة حتى التقيت الرجل وسألته فقال لي إنه لم يكتب
سيرته الذاتية ولا يفكر في كتابتها، معتبرا أن كتابتها تحتاج إلى قدر من حب الذات
لا يجده في نفسه.
وقد لفت نظري أنه في
مقال نشر بمجلة "
الهلال" الثقافية الشهرية المصرية عبـَّر عن
الفكرة نفسها. كان المقال استجابة لطلب المجلة من عدد من المفكرين ليكتبوا تحت
عنوان "التكوين"، فاستهل المقال بقوله:
"
يصعب الحديث
عن "التكوين" دون أن يمتد الكلام إلى الذكريات، ولا زلت رغم تقدُّم السن
بي معلق البصر بالمستقبل وما يصلح به وما ينبغي فعله، وهذا التوجه لا يتلاءم مع
الالتفاف إلى الماضي واستدعاء الذكريات. ولا تزال أجهزة الاستقبال لدي أقوى من
أجهزة الإرسال".
ويستطرد البشري:
"
ومن ناحية أخرى
لم أعتبر التفكير في نفسي، أرى ذلك نوعا من إطالة النظر في المرآة مما لا أحبه.
والموقف المثالي في ظني أن ننظر في شأن آخر، أي أن "تفنى" (بتعبيرات
الصوفية) في موضوع تدرسه أو عمل تؤديه، حتى وإن كان عملا يدويا. ومن باب أولى لا
أسيغ الحديث عن نفسي، يركبني الحياء وأشعر بعدم الجدوى، وأني أستنفد جهدي ووقت
الآخرين في ما لا ينفع". وبسبب عزوف الرجل المشار إليه ولأن الكتاب هو
الأول عن طارق البشري – بعد كتاب احتفالي جماعي صدر بمناسبة إحالته للتقاعد، فقد
أجرى المؤلف حوارا مطولا معه في منزله امتد عدة جلسات، ليصبح هذا الحوار مصدرا عن حياته
وقد أورده المؤلف كاملا في نهاية الكتاب.
الفصل الأول "
النشأة"
يكشف عن شخصية البشري نضجت مستمدة ماءها من منابع عديدة إنسانية ومهنية
وفكرية، وأن ملامحها الرئيسة تشكـَّلت من رافدين رئيسين هما: العائلة والقضاء. وينتسب
طارق البشرى إلى عائلة ممتدة كثيرة العدد، متوسطة الحال (مستورة)، عالية القدر في
الأدب والعلم، مكانتها الاجتماعية تفوق وضعها الاقتصادي. وحسب وصف طارق البشري
نفسه لهذه العائلة فإنه ابن "
أسرة مهنية" تنتمي لهذه الشريحة
الاجتماعية المهنية، بمعنى أنها تعمل بخبرتها المهنية والفنية ترتزق من هذه
الخبرة. ويضيف البشري: "
كذلك كان أبي معنا وأنا مع أبنائي يشغلنا دائما
كيفية تربية "مهني جيد" وهي مسألة مستهدفة ومتضمنة في مختلف عمليات
التربية والتكوين"
وقد
كان جد أبيه فلاحاً من أهالي قرية "محلة بشر" وتتبع مركز "شبرا
خيت" بمحافظة البحيرة. ويبدو أنه كان رقيق الحال حتى إنه دفع أحد أولاده
للعمل مع جماعة من "
عمال التراحيل، يحرس ملابسهم"إذ
كان صبياً وقتها، لم يتجاوز العاشرة من عمره. ولم يكن هذا الصبي سوى سليم البشرى
الذي أصبح فيما بعد شيخاً للسادة المالكية بمصر، وشيخاً للجامع الأزهر الشريف، وهو
جد طارق البشرى لأبيه. وفي محضن هذه العائلة تلقَّـى طارق البشري أول معارفه قبل
التعليم النظامي، فقد كان الشيخ سليم البشري "
مؤسس عائلة"
بالمعنى الدقيق، وفي محضن هذه العائلة تفتحت عيون طارق البشري ومداركه.
ويتوقف
ممدوح الشيخ عند قصة "فرار" الجد طويلا كونها مؤشرا على حضور
"الأسطورة" بقوّة في المناخ الذي تفتّحت فيها عينا طارق البشري. فالجدّ،
الذي أصبح في ما بعد واحداً من أكثر شيوخ الأزهر شهرة على الإطلاق، لم ينتقل من
قلب الريف إلى القاهرة بالتوافق مع مسار نهر الحياة الذي يفرضه السياق الاجتماعي
الذي كان آنذاك قويا إلى درجة تجعل التمرّد عليه والسير "عكس التيار"
مغامرة تحتاج شجاعة وخيالا معا، بل بالسباحة ضدّه. وخلال مسيرة طارق البشري
العائليّة ستصادفنا "الأسطورة" عدة مرات لا شك في أنها خلقت لدى البشري
الحفيد – مبكرا – الاستعداد النفسي للنظر إلى الحياة نظرة مثالية لا يقهرها
الواقع، بل إن "عباءة" الإمام الأكبر نفسها قد تحوّلت إلى أسطورة متجسدة
في حياة الحفيد لسنوات، فتعلّق بها واستلهمها حتى بليت، وإن لم يبل أثرها فيه!
وقد كان الدرس الأكثر
تأثيراً في طارق البشري في المحضن الأوّل "العائلة" كما يرويه بنفسه قادماً
من عالم الـمُـثُـل، وهو يدور حول معنى "
المعاناة والشموخ ومراعاة كرامة
العلم وتبعة خدمة الدين، وصار أشبه بالبداهات أنّ القيمة الاجتماعيّة هي قيمة
العلم والموقف، وليست قيمة المال ولا السلطان". وقد ساهمت عدة مواقف حفرت
في ذاكرة البشري في تأكيد مركزية فكرة "التضحية" التي تحوَّلت خلال
مسيرة طارق البشري الفكرية والشخصية إلى "أسطورة"، حتى أنه أصبح يرى أن "
مستقبل
أمتنا يكمن في الاستعداد للتضحية".
وعلى جسر التلاقي بين
الاستعداد للسير في عكس التيار، وفي الوقت نفسه، الاستعداد للاندراج في التراتبية (كما
تعلم من العائلة) بلور طارق البشري توازنا بين عالمي القضاء والفكر، ففي الأول كان
رجل تراتبية بامتياز، وفي الثاني كان رجل المواقف الصلبة التي لا تأبه لسطوة ما هو
سائد ولا تتردد في مواجهته.
الفصل الثاني
"مصادر
التكوين الثقافي والفكري" وفيه تتبع للمسار الطويل الذي اتخذته رحلة
التكوين وكذلك القيود التي فرضتها عليه مهنته كقاضٍ، فهي منعته من
"ممارسات" عديدة يبدي فيها رأيه في الشأن الجاري أو ينخرط في تنظيمات
سياسية، لكنها لم تمنعه أبدا من أن يدخل عالم السياسة من بابي: التاريخ والفكر،
فاختار طارق البشري موضوعات مؤلفاته التاريخية والفكرية وفقا لانحيازاته التي لم
تجد طريقها للتحقق عبر الانخراط في العمل العام.
ويرى الشيخ أن من
السمات المميزة لمسيرة المستشار طارق البشري تأثرها بثنائيات متقابلة: التمرد/
الاندراج – العمائم/ الطرابيش .. .. .. ومن الناحية الاجتماعية تأثر طارق البشري
بثنائية أخرى كان لها أثر مهم ممتد، إذ أمضي طفولته وصباه ومطلع شبابه بين العمائم
والطرابيش، في أسره ممتدة، مترابطة؛ تتغلب فيها علاقات القرابة علي الانفراد
الطبقي الذي قد يميز بعض أعضائها. فضلا عن أنه أمضي تلك الفترة بين
"المدينة" و"الريف".
ومما يعد جديدا على صورة البشري التي
كشف الكتاب عن ملامحها أن من المصادر المهمة لثقافته المتعددة الروافد: التصوف، ففي
الفترة العلمانية من حياته، ولحوالي عشرة أعوام، كان قريبا من الأدب الصوفي، ومنه
تعلم: "
كيف تـُبنـَى النفوس". وينقل الشيخ عن طارق البشري قوله:
"
في المرحلة العلمانية كانت قراءاتي الصوفية مستمرة، وهذا أنظر إليه الآن
بدهشة، فهل كان احتياجا قلبيا؟". ومصادر التكوين الفكري والوجداني
والثقافي للبشرى يجد أنها وصلته بروافد التراث العربي الإسلامي من ناحية، وروافد
الفكر الغربي الحديث.
الفصل الثالث
"البشري
قاضيا (وفقيها)" يؤرخ لرحلة طارق البشري مع القضاء حتى تقاعده في يونيو 1998،
وربما قد أفضل تلخيص لهذه الرحلة قول طارق البشري في احتفالية تكريمه إنه بقي
سنتين بعد تعيينه في مجلس الدولة يتحسس طريقه ليرى أيكون قاضيا صالحا أم لا؟ أيؤدي
– أو يستطيع أن يؤدي – في مهنة القانون شيئا نافعا أم لا؟ قال: "
وحين بلغت
الثانية والعشرين كنت قد اطمأننت على مسيرتي، فخرجت ذات يوم من مكان عملي إلى مسجد
السادة المالكية، حيث قبر جدي الشيخ سليم البشري وصليت هناك – في المسجد – ركعتين،
ودعوت الله أن يوفقني، وعاهدته بعهد موسى عليه السلام "رب بما أنعمت علي فلن
أكون ظهيرا للمجرمين".
وقد ارتبطت معرفة
طارق البشري بالفقه الإسلامي ارتباطا وثيقا بعمله القضائي، حيث تشابكت المؤثرات في
مسيرة طارق البشري الفكرية والمهنية، يقول طارق البشري: "
في عملي القانوني
هناك مناهج في تفسير النصوص درسناها بينها أصول الفقه وجميع رجال القانون
التطبيقيين متأثرون بمناهج أصول الفقه. وقد اكتشفت أن تاريخ النص وتأثيره على
الفهم قادم من التاريخ، وهكذا أصبح هناك تأثيرات غير منظورة بين المجالين، وهذا
اكتشفته متأخرا".
بل إنه بعد المراجعة
والتحول الفكري انتبه إلى حقيقة أنه في الفترة العلمانية أيضا لم تنقطع صلته
بالفقه الإسلامي من موقع مهني، ويضيف طارق البشري: "
هذا الجانب كان يحل لي
مشكلة مهمة هي أنني لم أشعر يوما أن الدين من علامات التخلف، ولم تكن عندي أي
مشكلة في تجديد الفقه الإسلامي لأنني كنت أعرف أدواته. لكن ما جاء تاليا هو سؤال:
هل هناك إسلامية فيها تجديد أم لا؟ ولم أفكر أبدا هل يمكن التجديد في الفقه
الإسلامي أم لا لأنني كنت أعرف أدواتها وميكانيزماتها وإمكانياتها، ولكنني كنت
أبحث عن تحققها في الحركات الإسلامية"، فخلال عمله القانوني كان طارق
البشري "قاضيا بدرجة فقيه".
الفصل الرابع
"طارق
البشرى مؤرخا" يكشف فيه ممدوح الشيخ عن أن مجالات اهتمامه تستوعبه إلى حد
كبير فهو لم يكن المؤرخ المدرسي الأكاديمي الذي يتخصص بحقبة أو تاريخية أو ظاهرة
يراكم الدراسات عنها بشكل "كمي" بل استوعبه التاريخ طولا وعرضا وجمع بين
"نظرة الطائر" و"نظرة النملة"، تعميما وتدقيقا. وهو في عمله
التأريخي كان "واعيا" ولم يكن "أداتيا"، فهو اختار موضوعاته
ودرسها انطلاقا من قناعات بدور المؤرخ كمثقف لا مجرد "حرفي"!
الفصل الخامس "
المراجعة
الفكرية" يتناول المراجعة التي بدأت بعد نكسة يونيو 1967، فحسب البشري:
"
إذا اختلف في يدك الميزان فيجب أن تعيد وزن كل ما وزنته من قبل حتى لا
تتناقض مع نفسك، وأنا أخذت من العمل القانوني شيئا هو أن أبتعد عن التناقض لأنه
شيء سيء، ففكرة الاتساق أساسية وقد أصبحت عادة عقلية. وأحيانا عندما تخرج من
مرجعية فكرية لمرجعية فكرية أخرى تمر بمرحلة لا تكون هذه فقدت وجاهتها تماما ولا
تلك اكتملت جاذبيتها لك فتصبح كأنك بين جاذبية كوكبين وفي هذه اللحظة أيقنت كمؤمن
أن هداية الله هي الحل والفيصل". وقد ختم ممدوح الشيخ الفصل بعبارة موحية
لطارق البشري يقول فيها: "
الحمد الله؛ أنا
مارست حياتي بصدق، والحمد لله أن هناك أحكاماً علمية أنا مختلف معها الآن، ولكن
حين كتبتها لم أكن أريد مصلحتي الشخصية. والحمد لله أنني لم أخطئ بقصد".
الفصل السادس
"الإسلاميون
المستقلون: المراجعات والخطاب الجديد" محاولة لتحديد موضع طارق البشري من
ظاهرة الإسلاميين المستقلين. أما الفصل السابع
"تعقيب عام على التحولات"
فيوجه فيه المؤلف نقدا لطارق البشري.، وقد تمحور فكر البشري حول الموقف
الاستقلالي وقام على تلاقي عدة مركزات: الديمقراطية، البناء الاقتصادي المستقل،
الاشتراكية، الوحدة العربية، رفض التبعية لأي قوة خارجية، عسكرية أو سياسية أو
اقتصادية. والديمقراطية عنده قيمة شعبية سياسية والاشتراكية قيمة شعبية اجتماعية،
وهما من لوازم الاستقلال وحفظته، والعروبة هوية الاستقلال ولازمته وحافظته على
النطاق الفسيح".
ويرى ممدوح الشيخ أن رهان
طارق البشري الثابت على الاستقلالية قبل التحول الفكري وبعده، إلى حد وصف نفسه
بأنه "استقلالي"، ينطوي على تناقض، وهو يعتبر أن من أهم ما تعلمه من عمل
القضائي خلو الفكر من التناقض واتصافه
بالاتساق.ومصدر التناقض أن مقولة "الاستقلال" تعني بالضرورة
تغليب "الوطني" على "ما فوق الوطني" أمميا كان أو قوميا أو
دينيا، وهو قبل المراجعة لم ير تناقضا بين الاستقلال والأممية وبعد التحول لم ير
تناقضا بين الاستقلال والبعدين العروبي والإسلامي، صحيح أنه قدم تصوره لحل هذا التناقض
لكنه في النهاية يظل الحل الخاص بطارق البشري، بمعنى أن التناقض ما زال قائما،
وتلك سمة من سمات عالم الأفكار إذ يمكن أن يزيل المفكر "شكليا" التعارض
بين متناقضين دون أن تكون الإجابة التي قدمها حاسمة شافية.
كما أن المستشار طارق
البشري، في رأي المؤلف، في سبيل تحقيق الهدف الأسمى "الاستقلال" جعل
رهانه الرئيس على الدولة وهي دولة تجمع بين مفهومين متقاربين: "الدولة
الوطنية" بمفهومها التنويري المستند لميراث الثورة الفرنسية، وهو في هذا
متأثر بالتأثير الكاسح لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وكلاهما لعبا دورا كبيرا –
نرى أنه لم يحظ حتى الآن بتقييم دقيق لـ "أسلمة فكر الثورة الفرنسية وتسويقه
عربيا" – وهو ما أصبح سمة غالبة لرؤية الأجيال التالية من دعاة الإصلاح
الإسلاميين.
والمفهوم الثاني الذي
أصبح من لوازم موقف المستشار البشري – رغم اهتمامه بعد المراجعة بحرية العمل الأهلي
وإبقائه قويا لموازنة سلطة الدولة – هو مفهوم الدولة المركزية وهي حسب معجم
مصطلحات عبد الوهاب المسيري "دولة مطلقة". والموقف الرمادي من الدولة
المركزية واحد من أعمق مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر.
وقد ولد الخطاب
الإسلامي الحديث مسكونا بهاجس إعادة بناء الدولة الإسلامية منذ بواكيره، وذلك بسبب
الصدمة العنيفة التي ولدها الاجتياح الاستعماري الغربي، وما تبع ذلك من تفكيكٍ
متتالٍ لأسس الإجماع الأهلي ومباني الشرعية التقليدية. وقد جاءت صدمة إلغاء
الخلافة العثمانية (1924) مشفوعة بإعلان علمانية الدولة ليجعل مطلب الدولة الإسلامية
في صدارة أجندة تيار الإسلام المعاصر، وذلك خلافا للحركة الإحيائية الإسلامية
للقرن التاسع عشر التي تركز القسم الأكبر من على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عرى
الشرعية السياسية الإسلامية ممثلة في "الخلافة".
ووجه القصور الرئيس
في تقديرنا أن نقاش الإسلاميين حول "الدولة" اقتصر على وجه واحد – غالبا
ما نوقش منفصلا – من وجوه مركب ثلاثي. وأما نقاش الإسلاميين فاقتصر على: الظاهر
(الإجراءات)، والخفي (الغيبيات) دون التعرض لواسطة العقد في بنية الفكرة، ونعني
بها: نقطة التلاقي بين الغيبيات والإجراءات والقيم، فحضور ما هو غيبي في مفهوم ليس
اختيار فقيه متشدد أو مدرسة فكرية محافظة، بل صفة لصيقة بمقولة "الدولة"
كثمرة للتفاعل بين: الإجراءات والغيبيات والقيم. والدولة بهذا المعنى لا يمكن
تعريفها تعريفا جامعا مانعا دون استكناه ما وراء المفهوم من مسبقات قد تقع
"تصنيفيا" في عالم الفلسفة والماورائيات، لكنها تسهم بقدر كبير في تحديد
حدود المفهوم وكذلك في تقرير المحرمات والممكنات وترتيب الأولويات.
ومن النتائج التي
ترتبت على خيارات طارق البشري نظرته للدولة المركزية التي أسسها محمد علي باشا في
مصر (تولى السلطة 1805) نظرة إيجابية، وهو يردد مقولة محمد شفيق غربال سالفة الذكر
عنه رغم أنها ليست التقييم الوحيد لتجربة الرجل. وما نرجحه أن طارق البشري اتخذ
هذا الموقف بالتداعي: مركزية فكرة الاستقلال أوجبت الرهان على "الدولة"،
ومخاطر الهيمنة استدعت بالضرورة حتمية "الدولة القوية"، ومع الدولة
القوية جاء التسامح مع فكرة "المستبد العادل" وأحيانا قبولها. ومع غياب
معايير واضحة للعلاقة بين الدولة والفرد لم تكن هناك كوابح تمنع الدولة القوية في
مواجهة الخارج من التغول باتجاه الداخل.
وهكذا عاد التعارض
والصراع بين الاستقلال والديموقراطية!
وفيما يتصل بالموقف
من محمد علي فإن الأمر يتجاوز في أهميته ترف الجدل حول التاريخ، فهو رمز لخيار
وعلم على رؤية ما تزال مطروحة بقوة على ساحتي الفكر والسياسة في عالمنا. وعلى خلاف
رؤية البشري لمحمد علي، وانطلاقا من رؤيته لمكانة مصر يصف أرنست رينان تجربة محمد
علي بما يلي:
"
إن أهمية مصر
الاستراتيجية بالنسبة لملكوت البحار كما بالنسبة للاستيلاء على أعماق أفريقيا إنما
تشير إلى أنه حين يلعب بلد ما دورا يمس المصالح العامة للبشرية فإنه يجري دائما
التضحية به في سبيل هذه المصالح. والبلد الذي تكون له مثل هذه الأهمية بالنسبة
لبقية العالم لن يسعه الانتماء إلى نفسه إذ يجري تحييده لحساب البشرية . . .
ومصلحة الحضارة الأوروبية هي التي تتطلب هذه التضحية إن مصر سوف يتم حكمها دائما
من جانب مجموع الأمم المتحضرة . . . وسلالة محمد علي المالكة ليست سوى دمية بيد
أوروبا، إن فرنسا على مدار ثلاثة أرباع القرن قد وجدت حلا لهذه المشكلة الصعبة حلا
سوف يكون مثار الإعجاب عندما تبين التجربة أية دموع ودماء سوف يدفعها العالم ثمنا
للحلول الأخرى. لقد ارتأت أن تحقق عبر أسرة مالكة مسلمة من الناحية الظاهرية
(!!!).. ..هيمنة الروح الحديثة على هذا البلد غير العادي الذي لا يمكن تركه منتميا
إلى البربرية دون أن يترتب على ذلك إلحاق أذى فادح بالصالح العام".
و"يرد محمد علي وأسرته المالكة على خاطره فورا وهو يصف الملوك اليهود
المتأثرين بالروح الهللينية والذين يخدمون روما بالخروج على روح إسرائيل الدينية".
ووصف "مسلمة من
الناحية الظاهرية" يطرح أسئلة عديدة عن مدى دقة وصحة وصف محمد علي بأنه كان
عثمانيا من البداية.
بل إن الدور الذي قام
به السان سيمونيون في دولة محمد علي يظل هو الآخر محل تساؤل عن حقيقة توجهات محمد
علي ودوره، فحسب هنري لورنس تحولت السان سيمونية على يد خليفته الأب انفانتان إلى
"دين حقيقي"، وقد واصل أتباعه تنظيم أنفسهم في كنيسة جديدة ومارسوا تبشيرا
عالميا. ودينهم مادي تماما.
ومن ناحية أخرى يرى
المؤرخ المرموق الدكتور ضياء الريس أن محمد علي لم يكن سوى مخلب قط للمصالح
الفرنسية وأنه بلغ في انخلاعه من الالتزام بأية معايير سوى النفعية التامة حد أن
فرنسا رغبت إليه أن يشترك معها في غزو الجزائر ويضيف الريس: "
ومن الثابت
أنه رحب بهذه الفكرة وكاد أن يشترك معها لولا أن حذرته انجلترا من هذه المغامرة".
وهو في موضع آخر يؤكد أنه "
أصبح أداة في يد السياسة الفرنسية".
وجه النقد الأخير
الذي يوجهه ممدوح الشيخ للمستشار طارق البشري أن الدراسات في العلوم الإنسانية
الحديثة تكشف أن كل الرؤى الأيديولوجية الكبرى في العصر الحديث (التنوير الأوروبي –
الماركسية – الرأسمالية – النازية – التمركز حول الأنثى –.. .. ..) جميعها تنطلق
من مفهوم لما يسمى "الحالة الطبيعية للإنسان". وهذا المفهوم ينبني على
أفكار مسبقة لا تقبل البرهنة عليها، فهناك من يرى الحالة الطبيعية للإنسان جماعية،
وهناك من يراها فردية، وهناك
الفيلسوف الانجليزي توماس
هوبز الذي يعتبر الإنسان
بالضرورة "ذئبا لأخيه الإنسان"، وأن الحياة البشرية هي – بالضرورة –
"حرب الكل ضد الكل"، أما الفيلسوف باروخ سبينوزا، مثلا، فنفى وجود الشر
نهائياً.. .. .. وهكذا.
ومن المفارقات أن هذه
النظريات التي قام معظمها على إنكار الصلة بين الدين والحياة الإنسانية عموما
أخذوا مفهوم "الفطرة" من الأديان وأقاموا مناهجهم الفكرية بشكل مماثل
تماما لـ "بنية" الدين، فهناك: غيبيات وشرائع ومنظومة قيم. وفي الإسلام
فإن الفطرة الإنسانية هي من الله: "
فطرة الله التي فطر الناس عليها"(سورة
الروم: 30)، والنفس الإنسانية بحسب المفهوم الإسلامي للفطرة ألهمها الله دواعي
الفجور والتقوى: "
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها"(سورة
الشمس: 7 –
.
ومع بزوغ فجر
"الأيديولوجيات"، بظهور فكر التنوير الأوروبي، ظهرت للمرة الأولى رؤى
كونية للإنسان (الفرد والمجتمع)، والكون، وما وراء الكون، تستند إلى مفاهيم للفطرة
لا تعتمد على المصدر الديني للمعرفة.
ويمكن وصف التصور
النظري للحالة الفطرية للإنسان بأنه يعني معرفيا "الأفكار المسبقة"،
وبعضها اختيارات اجتماعية وثقافية وسياسية وبعضها معايير تصنيف، وجميعها لا تقبل
البرهنة، وإن سيقت للدفاع عنها حجج تبدو وجيهة. وعلى سبيل المثال فقد دار الحوار
التالي بين المؤلف والمستشار البشري حول قضية الثروة:
"البشري: الغنى
المسرف غير منطقي وغير معقول وغير مبرر.المؤلف: هل هذا في
المطلق أم باعتبار مصدر الثروة؟البشري: لا أستطيع
التفرقة بين المطلق وبين مصدر الثروة، ولا أفهم أن يحصل شخص بجهده على تراكمات
ضخمة على ثروة كبيرة بشكل أمين دون أن يكون فيه عدوان على آخرين.المؤلف: لكن هذا
عدوان افتراضي؟البشري: لدينا في
القضاء قاعدة – وهي قاعدة فقهية أيضا – تقول: العام ظني الدلالة في عمومه والخاص
قطعي الدلالة في خصوصه. وعند الحكم على حالة أن يجب أن تعتمد اليقين.المؤلف: فأنت تعتبر –
مثلا – إجراءات التأميم والتمصير التي شهدتها مصر في عهد عبد الناصر مشروعة؟البشري: إجراءات
التأميم والتمصيركانت مبررة وشرعية. ولم يكن أي منهما عدوانا على الملكية الخاصة."وهو مجرد مثال
للتصورات التي ينطلق منها المستشار البشري دون أن الإعلان عنها رغم أنها مداخل لا
غنى عنها لفهم أفكار في مرحلتيها السابقة على التحول والتالية له.
الفصل الثامن
"من قضايا
المنهح عند طارق البشري" يحاول كشف
مكونات "السبيكة الفكرية" للبشري، فهو ليس رجل الفكرة الواحدة أو
الـمَلـَكلة الواحدة أو التجربة الواحدة شأن كثير من المفكرين، وهو نتاج عصره
بدرجة كبيرة، إذ لم يكن أبدا حبيس برج عاجي، لا بالمعنى النظري ولا العملي. وهو
خلال مسيرة بدأت في النصف الأول من القرن العشرين ولم تزل مستمرة حتى الآن، طبعته
العائلة بطابعها، وتركت فيه الحقبة التاريخية أثرها الواضح فساهمت في بلورة الدور
وترتيب جدول الأعمال وتحديد وسائل التعبير عن القناعات والانحيازات بما لا يتعارض
مع وقار القاضي وحماسة الوطني الغيور وأناة المفكر ودأب المؤرخ.
ومن القضاء اكتسب طارق البشري حساسية لم
تفارقه إزاء "التناقض" وحرصا واضحا على الاتساق، ومن التصوف اكتسب
تقديرا كبيرا لدور "ما ليس ماديا" في تحريك التاريخ، وفي التاريخ وجد
طارق البشري ضالته فأرسل عبر دراساته التاريخية رسائل سياسية جعلته تاريخا مفعما
بالحياة، فضلا عن أنها مكنته من بناء جسر بين "التقاليد"
و"القناعات".
الفصل التاسع
(الأخير)
"المشروع الفكري لطارق البشري" يستعرض "المفاهيم
الـمُؤسِّسة" للمشروع: الاستقلال الوطني، ثنائية الموروث والوافد، ثنائية
الثابت والمتغير، بناء التوافقات والجسور (التيار الأساسي)، مركزية التحدي الغربي،
ضرورة تجسير العلاقة بين العروبة والإسلام، حتمية التجديد الفقهي، وتقويم مسار
الحركات الإصلاحية.
الكتاب: طارق البشري:
القاضي..المؤرخ..المفكر..وداعية الإصلاحالمؤلف: مـمـدوح
الـشـيخالناشر: مركز الحضارة
لتنمية الفكر الإسلامي - بيروتالحجم: 248 صفحة من
القطع المتوسطتاريخ
النشر: 2011.