رحلة إلى فسيح الفضاء
ذاك اليوم هو الخميس قال لي زميلي.. قبل تلك اللحظة بأسبوع سنلتقي جمعا لنخرج صفا إلى الفضاء الفسيح.. الذي لايزاحمنا فيه إلا ظلنا.. لحظة شموخ الشمس في كبد السماء ..فضاء ننعم فيه بنسائم الأرواح تلتقي فتتعانق فيه أحلام الأفكار لترتقي ..فضاء تسمو فيه النفوس إلى العلا متشبثة بألق توهج الآمال في عنق السماء.. وسحر عناقيد نجومها البراقة ..وحللها المتناثرة على امتداد بساطها ..
.. جاء الخميس اتصل بي زميلي المتنبي جهز نفسك أنا قادم الساعة.. أظنها كانت الثالثة والنصف بعد الزوال .. كنت لحظة انتهائي من درس في قاعة الصف ..
نعم أنا جاهز أنت سبب تأخرنا ..
صمت قليلا.. ثم قلت أخ المتنبي من سيكون معنا في رحلتنا ..
أجاب وكأنه يحضر نفسه مجتهدا في إعداد العدة من لوازم .. وأدوات للطبخ .. وأخرى لجلسة الشاي بين ضفاف الرمال الذهبية .. ترمقنا من بعيد أشجارها السندسية .. سيكون معنا الأخ العزيز وكذا العميد..دون أن أنسى المحمدي .. هم بقطع الاتصال .. أيضا.. أيضا سيكون معنا البسام الشائق .. قلت في نفسي إنها رحلة تجتمع فيها درر العزيز وجواهر العميد ، وأنس المحمدي ، ولطائف البسام الشائق ، مع موشحات المتنبي المتناغمة مع خرير الشاي المنساب من عنق الإبريق .. مع نسيم النعناع الذي يعطره وحمرة الجمر التي تنعكس عليه كلوحة فنية تمتزج فيها الألوان ... الموشحة بوشاح ريشة المتنبي ..هل ..ألو .. ألو ........ انقطع الاتصال .
.. وصلت إلى البيت مسرعا .. غيرت ملابسي .. حضرت لوازمي .. ثم صليت عصري وانطلقت لموعدي مع المتنبي .. انتظرت قليلا في طريق رئيسي ليست من عادتي الوقوف فيه منتظرا أيا كان ، فشعرت في الانزعاج وقلت في نفسي أتمنى أن لا يتكرر معي ما حصل لي في هذا المكان في رحلة سابقة مع المتنبي إذ في ذاك اليوم انتظرت حتى انزعجت وهممت بالانصراف لولا اتصال المتنبي الذي جعلني أومن بأن الفرج بعد خطوة من نفاد الصبر .... لكن كل ذلك أنسانا فيه سحر طبيعة ( تمكرست) تلك الطبيعة الخلابة التي تغمر جبالها المياه المنسابة من أعاليها الشاهقة ورمالها الممتدة وأشجارها الوارفة الظلال ... وجمالها المتناسقة في مشيها .. ذاك سحر الطبيعة الذي لا يقاوم ...يا لها من ذكرى أنستني متاعبي ...
رمقت عيني سيارة المتنبي فيما كنت في رحلة مع الذاكرة فقطعت رحلتي مع الذاكرة وتمنيت لو أطلت الانتظار ... توقفت السيارة وبينما أنا متقدم لسيارة المتنبي ، رست وراءها سيارة العزيز .. رحبت بالكل ثم ركبت سيارة الأخ العزيز ..
.. انطلق الركب مبتهجا إذ مع الأخ العزيز الأخ العميد .. قال العزيز نحن ( الخضراء) مشيرا إلى شعار يوشح به سيارته وهو وشاح محاربي الصحراء..
قلت: والمتنبي يمثل ماذا..؟
قال: الأخ العزيز يمثل ( الحمراء) قلت في نفسي أخشى أن يورطنا الأحمر لأنها عادة المتنبي المتزينة بالمرح والتي تصنع البهجة في النفوس وتعطر الرحلة بمتعة يبقى إيقاعها يرن في القلوب شوقا إلى تلك الرحلة لكن بين الأحمر (المحمدي) يرتدي زي الخضراء ربما يخفف من خطر الأحمر...
قلت : ( معاك يا الخضراء ).. يضحك الكل ويستمر المسير ..
... قطعنا مسافة كبيرة .. بين فجاج الجبال المترامية .. وعليل نسمات الفضاء الذي ترنو نفوسنا إليه .. وخضرة الأشجار التي نأمل الاستظلال تحت ظلها ، و صفرة الرمال التي التي نحن في شوق للتسامر فوق تلالها ...
... فجأة ... حاجز المراقبة لم يتوقعه أحد .. سيارة هنا والأخرى هناك من لايهاب تتملكه الرهبة في تلك اللحظة ... مررنا نحن الخضراء بسلام .. بينما .. الحمراء ... أوقفت سيارتهم .. فقلت في نفسي .. إنها البطاقة الحمراء التي ستحرمنا من خدمات المتنبي من دعابته من نغمات موشحات خرير شايه... ومن ممازحاته الممتعة .. إنها بطاقة إذا أشهرت فستسود سعد رحلتنا ... أتمنى أن لا يكون بين عناصر الحاجز (كوجيا)...
أوقف الأخ العزيز السيارة ... انتظرنا قليلا ... واستبد بنا اليأس بعد طول توقف سيارة الحمراء .. حاولنا الاستفسار فقيل لنا لقد نسي المتنبي وثائق السيارة .. ما هذه الحسرة أينسى السائق الوثائق ..
نزل السائق وهو شاب وسيم استعان به المتنبي لقيادة سيارة الحمراء يرتدي نظارات زادته شيئا من الحزم والهيبة .. لكن عندما سئل عن رخصة سيارته سقط الحزم وتحطمت نظارات هيبته إذ كيف لا يتفقد السائق حتى رخصة سياقته ... بعد شد وجذب بين المتنبي والسائق المهيب ورجال الحاجز .. اقترح على الأخ العزيز أن يعود بسيارة الخضراء للتنقيب عن وثائق سيارة الحمراء ..
قلت في نفسي ماهذا الحظ العاثر .. سليت نفسي إنها المتعة تبدأ من هنا متعة خرجات المتنبي التي تزيد الرحلات حلة ...
عدنا مع الأخ العزيز بسيارة الخضراء ... اتصل السائق المهيب بصديق له إذ إنه نسي رخصته بسيارة أخرى ما أحزمه من سائق .. وجد المتنبي وثائق السيارة .. التحق صديق السائق المهيب فنقب معه على رخصته وسلمه إياها ...عدنا إلى الحاجز وسلمنا الوثائق .. انتظرنا كثيرا حتى بدأت تدنوا الشمس من مغيبها .. غرم السائق المهيب بغرامة قاسية لكنها مخففة ومع ذلك حرمتنا من رفقته إذ انزعج وعاد أدراجه ، وهو ما جعل ( المحمدي يقود السيارة ) ..
استأنفنا الرحلة من جديد بعد تحرر سيارة الحمراء وبعد فاصل كاد يقضي على متعة رحلتنا لولا روح المرح التي تسود المجموعة الباحثة عن الترويح عن النفس ونسيان شيء من التراكمات اليومية بمعانقة نسائم الفضاء الفسيح ...
.. وصلنا إلى فضاءات مترامية اختار لنا الأخ العزيز منها فضاء ..هو بساط رملي .. تكسوه صخور متناسقة ... تنبئ عن صنع حكيم مدبر .. السماء زرقاء تتناغم زرقتها مع اصفرار الشمس .. مع ميلها للغروب .. تمازج الشفق مع الزرقة فاكتسى الفضاء الفسيح حلة زبرجدية ... توقفت سيارة الخضراء ثم تلتها سيارة الحمرء أنزل المتنبي لوازمه ..كذا الأخ العزيز أنزل لوازمه ..فيما ذهب المحمدي للبحث عن عيدان لإشعال نار بجمر ستعزف عليه موشحات المتنبي.. كذا فعلت .. أحضر البسام الشائق الأفرشة ... افترشنا الرمل فتعانقت افرشتنا مع بساطها الذهبي ... حضر أخذ المتنبي في تحضير موشح الشاي .. الأخ العزيز منشغل بتحضير جمر تتراقص فوقه شرائح اللحم .. يجلس البسام الشائق... وبجنبه العميد يتسامران حول مشهد من مشاهد مسرحيات المتنبي الخالدة مع رجال المراقبة الدائمة...
قال: البسام الشائق يا أيها المتنبي ما فعلت بنا ..
المتنبي: ذي متعتها أي طعم لرحلة بلا ملح يقوم ذوقها..
البسام الشائق حقا لكن أيعقل أن تنسى الوثائق ..
يتدخل المحمدي بعد ما كان منشغلا بابتكار وسيلة تقليدية لكنها بديعا في إلهاب الجمر في دقائق ألم توقد النار بوثائق سيارة الحمراء ...
المتنبي يجيب بدعابة ربما لكن مع ذلك تمتع بحمرة الجمر المتناغم مع خضرة الشاي الأخضر في الإبريق يعزف سنفونية الأنس المكللة بإكليل السعادة الأبدية ..
الأخ العزيز لازال منشغلا بإلهاب الجمر .. آه.. أخرج الشرائح اللحم الحمراء ، وضع آلة الشواء على الجور بسط عليها شرائح اللحم ونثر عليها شيئا من الملح ...
استمر الأمر هكذا بالاستماع إلى جواهر العميد البديعة..ودرر العزيز الأنيقة.. وأنس المحمدي المتناسق.. ولطائف البسام الشائق الممتعة ..
أما موشحات المتنبي فقد بدأت تعزف .... وسحر أنامله بدأ يمتعنا بأنغام تطرب لها الأذن مع ما يرصعها به من نكت تارة يدافع فيها عن مشهد مسرحيته الخالدة ، وتارة يقع ضحية لنكته.. في مشهد تناغمت فيه صفرة شفق الشمس ، مع زرقة السماء .. وبساط ظلام الليل المقبل..
بدأت نسائم الليل فاستبد بالجمع البرد .. فاستمتعنا بشواء العزيز ودرره .. وأطربنا بموشحات المتنبي.. وتحلينا بجواهر العميد .. وانتشينا بلطائف البسام الشائق ...وأنس المحمدي الرائق ...
فجأة أسدل الليل ستاره مؤذنا أن قد أزف الرحيل ، فهب الجمع متحصرا عن انتهاء رحلة الفضاء الفسيح مع بداية تألق الجمع فيها وتناغمه مع طبيعة الفضاء الذي يترك العنان للأفكار لتسبح محلقة .. باحثة عن معانقة العلا ... متوشحة بوشاح الأمل في ملاقات الفضاء في مشهد ممتع آخر من مشاهد مسرحية المتنبي الخالدة مسرحية المتعة والصفاء الذي يبدو سرابا ثم يتحول إلى حقيقة تتعطر بالتعاسة لكن درر السعادة مكنونة في حلتها القشيبة التي حولتها روح الجمع إلى دعابة أحيت الروح .. وأعادت للحياة طعمها .. وللوجود ألقه المتعانق مع روح الفضاء الفسيح أملا في غد جميل بطعم أجمل...
بقلم محب العلماء